منتدى العمق

الالتزامات الدولية.. أي دور للبرلمان؟

يمكن اعتبار الدبلوماسية البرلمانية مجموعة من المواقف التي تتخذها المؤسسة البرلمانية بواسطة نواب الأمة في قضايا ذات طابع دولي وطني، بما فيها وظيفة التصديق والموافقة على المعاهدات والاتفاقيات التي يبرمها البلد الأصلي مع مختلف دول العالم وفق ما تحدده مقتضيات الدستور ، إن ظروف هذا النوع من الدبلوماسية الموازية بالمغرب في ما قبل الدستور الحالي قد اتسمت بتبعية البرلمان لمركزية المؤسسة الملكية، وإن ذلك ليس بغريب ما دامت امتدادا لسياسة الملك الخارجية، فهي وبلا شك محددة بتوجيهات ملكية ترسم خارطة الطريق الدبلوماسي، بل وموجهة للبرلمان ومصوبة لنظره نحو قضايا سامقة من قبيل ما أسماه الملك الراحل الحسن الثاني “المقدسات” وهي الدين الإسلامي والملكية ولغة الضاد حينها ثم الوحدة الترابية، وإننا لنجد هذه السمة مستوحاة من الفكرة “الدغولية” في دستور الجمهورية الخامسة الفرنسي، إذ اعتبر شارل دغول الدفاع والسياسة الخارجية من اختصاصاته الحصرية، فالبرلمان المغربي قد انحصر دوره في الموافقة لا التصديق على المعاهدات التي تترتب عليها تكاليف مالية في ما ذي قبل، إلا أنه اليوم وفي ظل دستور 2011 قد تغير هذا الوضع.

إن قضايا من قبيل السلم والديمقراطية والتعاون والأمن والتنمية بالإضافة إلى تقارب الثقافات والأديان وتبادل الخبرات في مجالات التشريع والتجارب في العمل البرلماني…، شاءت أن تجعل البرلمان أكثر فاعلية في المجال الدبلوماسي، ومنه فإن للبرلمان فاعلون دبلوماسيون أهمهم رئيسا المجلسين ولجنتا الشؤون الخارجية والفرق البرلمانية ومجموعات الصداقة والشعب الوطنية البرلمانية…بل إنه صار لزاما التنسيق بين المجلسين في هذا المجال، وأما وظيفة التصديق والموافقة على المعاهدات فإنها شهدت بدورها رقيا إذ أن الفصل 55 من الدستور في فقرته الثانية يصرح أن “يوقع الملك على المعاهدات ويصادق عليها، غير أنه لا يصادق على معاهدات السلم أو الاتحاد، أو التي تهم رسم الحدود، ومعاهدات التجارة، أو تلك التي تترتب عليها تكاليف تلزم مالية الدولة، أو يستلزم تطبيقها اتخاذ تدابير تشريعية، أو تتعلق بحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، العامة أو الخاصة، إلا بعد الموافقة عليها بقانون.” إن قراءة متأنية للنص توشك أن تبوح دون الإطلاع على الدستور أن البرلمان صار له أن يوافق بالإضافة إلى المعاهدات التي تكلف الدولة أموالا تلزمها، معاهدات السلم أو الإتحاد أو تلك التي تهم رسم الحدود ومعاهدات التجارة أو التي تستلزم تدابير تشريعية أو تهم حقوق وحريات المواطنين، ومنه يستنتج أن عمل البرلمان بالمجال الخارجي لا زال يتسم بالمحدودية سيما أن المجلس الحكومي يتداول في تلك المعاهدات والاتفاقيات الدولية قبل عرضها على المجلس الوزاري، إذ للملك أيضا أن يعرض على البرلمان كل معاهدة أو اتفاقية أخرى قبل المصادقة، إن أهم ما يلفت النظر ها هنا أن صلاحية البرلمان لا تتعدى الموافقة، بالإضافة إلى صلاحية لم نأت على ذكرها، ألا وهي الإحالة على المحكمة الدستورية، إما من طرف رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين أو سدس أعضاء مجلس النواب أو ربع أعضاء مجلس المستشارين، وعليه يجب التذكير أنها صلاحية يشترك فيها مع الملك ورئيس الحكومة، إننا وبدون شعور صرنا بصدد الحديث عن دبلوماسية رسمية سيما في وظيفة التصديق والموافقة على المعاهدات والاتفاقيات…

إن مقارنة المغرب مع دول أخرى لا غضاضة في كونها قد تخدم البحث العلمي، إلا أنه لكل بلد فكره وإرثه السياسي، بل إن نظام الدول قد يختلف وفي اختلافه انعكاس على آليات الاشتغال، فلو أخذنا مثلا بلدا فدراليا كسويسرا، اذ حسب دستورها الصادر عام 1999 والمعدل في 2014، نجد البرلمان حاضرا بقوة في مجال السياسة الخارجية، فإذا كانت المقاطعات لها صلاحياتها في ذلك، إذ تشارك المقاطعات في بلورة القرارات المتعلقة بالشؤون الخارجية التي تمس اختصاصاتها أو مصالحها الحيوية، ويقوم الاتحاد بإخطار المقاطعات في الوقت المناسب وبالتفصيل ويأخذ رأيها، كما تزداد أهمية مشاركة المقاطعات في اتخاذ القرار إذا ما كان الأمر يتعلق باختصاصاتها ويجب في هذه الحالة إشراك المقاطعات في المفاوضات الدولية بطريقة مناسبة ، أضف إليه أنه يجوز للمقاطعات إبرام معاهدات مع الدول الأخرى في مجالات اختصاصاتها، كما يجوز للمقاطعات التعامل مباشرة مع الجهات الأجنبية التي في مستواها؛ وفي الحالات الأخرى يكون تعامل المقاطعات عن طريق الاتحاد، فإنه للجمعية الاتحادية أن تشارك في وضع السياسة الخارجية وتشرف على العلاقات مع الخارج، كما أنها تصادق على المعاهدات الدولية ما عدا المعاهدات التي تقع بحكم القانون أو بنص معاهدة دولية ضمن اختصاصات المجلس الاتحادي

أما إذا تم الانتقال إلى اسبانيا حسب دستورها الصادر سنة 1978 والمعدل في 2011، فإننا لنجد أيضا دورا مهما للبرلمان في المجال الخارجي وإن كانت الحكومة هي المسير للسياسة الخارجية للدولة، ويبرز ذلك في كون الدولة لا توافق على المعاهدات أو الاتفاقيات إلا بترخيص مسبق من البرلمان، لكن وإن كان ذلك فإنه يلزم الدولة حصرا في الحالات التالية:

– معاهدات ذات طابع سياسي
– معاهدات أو اتفاقيات ذات طابع عسكري
– معاهدات او اتفاقيات تخص الوحدة الترابية للدولة أو الحقوق والواجبات الأساسية المنصوص عليها في الجزء الأول من الدستور
– معاهدات أو اتفاقيات تترتب بموجبها التزامات مالية على الخزينة العامة
– معاهدات أو اتفاقيات ينجم عنها إلغاء قانون ما أو تفرض اتخاذ إجراءات تشريعية لتطبيق أحكامها

وبالإضافة إلى ذلك وجوب إشعار مجلس النواب ومجلس الشيوخ مباشرة بإبرام باقي المعاهدات والاتفاقيات، كما يمكن للحكومة أو لأي من المجلسين أن يحيلها إلى المحكمة الدستورية

أما فرنسا فإنها تكاد تتشابه كليا وحالة المغرب حسب دستورها المعدل سنة 2008، إذ لا يجوز التصديق أو الموافقة على معاهدات السلم والمعاهدات التجارية والمعاهدات أو الاتفاقيات المتعلقة بالتنظيم الدولي وتلك التي تقتضي توظيف أموال الدولة وتلك التي تتضمن تعديل أحكام ذات طابع تشريعي وتلك التي تتعلق بأحوال الأفراد وتلك التي تتضمن التنازل عن إقليم أو مبادلته أو ضمه إلا بموجب قانون من البرلمان، وإن كان لرئيس الجمهورية صلاحية التفاوض والتصديق عليها بل والإطلاع على كل المفاوضات التي تهدف لابرام اتفاق دولي لم يخضع للتصديق، كما أن صلاحية إحالتها للمجلس الدستوري تكون لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء إضافة إلى رئيسي مجلسي البرلمان أو بناء على طلب ستين عضوا بالجمعية الوطنية أو ستين عضوا من مجلس الشيوخ

إن أهم ما يمكن استنتاجه من خلال كل ما سلف، أن موقع البرلمان بخصوص الموافقة والتصديق على الالتزامات الدولية كجزء من الدبلوماسية البرلمانية تكاد تتقارب والرسمية، جوهريا وإن اتسم بالمحدودية، بل إن ذلك لمن البديهي إزاء محورية الملك كرئيس للدولة، وتوجيهاته التي تنعكس على دور البرلمان في الدبلوماسية الموازية، بل إن أهم ما يثير الانتباه:

– انحصار دور المؤسسة البرلمانية في الموافقة على المعاهدات والاتفاقات الدولية لا التصديق، وإن زيد في عدد المجالات التي تستوجب تلك الموافقة للتصديق بالمغرب، إلا أنه يكاد يتشابه في ذلك مع كل من فرنسا وإسبانيا، إذ أن دستوريهما قد حصرا المجالات التي تناط فيها صلاحية القبول بالبرلمان السابق للتصديق الحكومي

– تعدد الفاعلين في التصديق على المعاهدات والاتفاقيات وقبولها في سويسرا، فالمقاطعات لها دور مركزي في السياسة الخارجية باعتبارها حكومات محلية، بالاضافة الى الجمعية الاتحادية كمشرف على العلاقات الخارجية، ثم المجلس الاتحادي الذي يصادق بدوره على المعاهدات الدولية التي تسند اليه بحكم القانون او بنص معاهدة دولية، ويمكن ارجاع السبب في هذا الدور المركزي للبرلمان الى طبيعة النظام السياسي لسويسرا، الذي يضمن توازن تمثيلية المقاطعات ودوامها كلحمة للاتحاد

– احالة المعاهدات والاتفاقيات الدولية على القضاء الدستوري، صلاحية يشترك فيها الفاعلون في السياسة الخارجية للدولة، إلا أن أهم ما لوحظ بفرنسا، تساوي أنصبة المجلسين، ما يحيل إلى توازيهما إذ لا أفضلية في ذلك للجمعية الوطنية على حساب مجلس الشيوخ

– حق البرلمان الاسباني في ان يحاط علما بباقي المعاهدات والاتفاقيات دستوري، مما يجعله مضطلعا بدور في مراقبة الحكومة وإثارة مسؤوليتها السياسية في إدارتها للسياسة الخارجية، ولعل ذلك ما يجد تفسيره في كون نظام الحكم بإسبانيا نظام ملكية برلمانية

– أن قراءة متأنية النص الدستوري الفرنسي وإن تشابه جزء منه مع الدستور المغربي، تظهر ايلاءه مكانة جوهرية للبرلمان، فبما أنه يضع التصديق على الاتفاقيات والمعاهدات التي تتضمن التنازل عن إقليم أو مبادلته أو ضمه مرهون بقبول البرلمان، فمعنى ذلك حسب اعتقادنا أن البرلمان هو الحامي لوحدة التراب الفرنسي.

*طالب باحث في العمل البرلماني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *