وجهة نظر

الحجاب في الغرب.. من ضيق العلامة إلى سعة الأمانة

تقديم

ليست قضية مريم بوجيتو وليدة اللحظة حتى نتفاعل معها بذاتية آنية مندفعة نحو إصدار أحكام لا تتلاءم مع الظرفية الراهنة التي تعج في الغرب والشرق بما لا يدع للشك نصيبا في أن الحجاب ليس هو المقصود في حد ذاته، بل المقصود هو روحه من حيث الاعتقاد، بل من حيث ما يحمله من أحكام قيمية ترفضها الذهنيات المعاصرة، لأنها ألفت الحجاب في صورته الميتة، إذ كان في العصور الماضية لا يخرج عن نطاق العلامة التي تميز المرأة عن الرجل، بل كان الرجل لا يرى فيه -سواء هنا وهناك- إلا ما يشبع به شهواته، والأحرى من ذلك، كن صاحباته أسيرات في الفكر والتحرك.

إذن لا بأس أن يتحرك ذوو النزعة الشاذة من النساء والرجال العصرانيين حين تغير المألوف عندهم؛ حين أصبح الحجاب يضايقهم في الفكر والحركة:، يعني عندما أصبح حيا يمارس دوره في البنية الاجتماعية كفاعل أساسي، بل يحاول في ظروف غير طبيعية استرجاع ما ضاع منه لقرون طوال سواء داخل المجتمعات العربية الإسلامية والغربية التي بدأت تفقد أعصابها في التعامل مع نظرياتها الفكرية في مجالي: الحريات وحقوق الإنسان.

لو احتجبت مريم بزيها الساتر دون ممارسة فاعليتها الفكرية والاجتماعية والسياسية والعلمية داخل مؤسسات المجتمع، ما تكشفت صورتها ولا عرفت قيمتها كإنسان يتميز بروح باطنية تختزن من القيم ما يختزنه الرجل نفسه، لكن سرعان ما أحيت نفسها بعد موت سريري عمر لعقود في ذهنيات الدهرانيين، بممارستها لأبسط الشرائع، ثار الشواذ من الرجال والنساء هنا وهناك.

ف” الحجاب” قبل كل شيء ، متضمن لكل القيم الدينية والأخلاقية التي تتعدى الجمال المادي الذي يروم الإنسان المعاصر حوصلته، إذن فالتستر والتكشف لا يفيان بقصده ، لأنهما من معاني الظاهر، والمتحرر من كل شذوذ لا يعنيه ظاهر الشيء بقدر ما يستهويه جوهره، وكل من طلب الثانية ولم يحكم الأولى كان جاهلا، فإنها أولى وأولى، وإلا كان ما يهدمه أكثر مما يبنيه.

لو أن المرأة استأمنت الرجل في كل مناحي الحياة، كما استأمنته على ذاتها في بيت الزوجية، لما تكشفت في صور متناقضة تهدف من وراء هذا التكشف استرجاع قيمتها ككائن بشري لا كفرد تتقاذفه المصالح المادية في أبخس صورها وتجلياتها، فعدم الائتمان الذي مارسه الرجل في حق المرأة عموما، جعلها تتكشف سواء احتجبت أو تكشفت.

ويمكن معالجة ظاهرة عَلمنة الحجاب( جعله علامة دينية) انطلاقا من المشروع الإحيائي للفيلسوف طه عبد الرحمن، الذي تنبأ لما نحن الآن بصدد مشاهدته على شبكة التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي البصري.

الحجاب حسب الفكر الطهوي تجاوز تلك النظرة الفقهية الضيقة التي صورت لنا الحجاب في مجرد قطعة ثوب تلف جسد المرأة أو بعضه، بل تعداها إلى أوسع من ذلك، ليجعله لباس ستر ذات المرأة دون جسمها، القصد منه التمثل بمبادئ الشريعة الإسلامية التي لا تستقيم بغير هذا الفرض الواجب بالنسبة للمرأة المسلمة.

كما رد مزاعم أصحاب الفكرنة العلمانية والعقلانية حين تهجموا على المرأة المتحجبة منذ فجر الحداثة، بدعوى الدفاع عنها لأنها أصبحت مسلوبة الحرية وأضحت ملكا ينتفع به.

تحت هذه الذريعة، مارست المرأة شذوذها، فتكشفت للعالم إما لأغراض تجارية أوإيديولوجية ممنهجة، حتى أصبحت بشذوذها هذا تقتحم عالم الرجال متنكرة لأصلها ووظيفتها، في حين ظلت فئة أخرى تدافع وتنافح وتقاوم هذا التحرر المزعوم بوسائل فقهية تقليدية أعوزتها أمام هذا المد الجارف، لاسيما حين اقتحمت الأماكن العامة، وبالتالي جاء نظريات طه عبد الرحمن كما يصرح صاحبها كقوة داعمة للمرأة المسلمة المتحجبة، تأخذ باستدلالاته العقلية في مكابحة كل من يحاول النيل من وجودها ككائن بشري سوي، لا كآخر غير سوي، أو الحط من قيمتها.

يناقش الدكتور طه عبد الرحمان كل ما ورد في هذا التقديم من أفكار وآراء في خمسة فصول.

الفصل الأول: الحجاب والظهور.

بين فيه صاحبه أوجه الالتباس التي وقع فيها خصوم الحجاب وما صاحبه من فساد في المنهج والطرح (فساد الدليل واللسان) لا سيما حينما جمعوا بين المتضادات التي لا تجتمع أصلا كما سنرى: مثل: التحجب على زعمهم القصد منه الظهور. وهما ضدان لا ندان في اللغة.
وقد حصر المؤلف هاته الأوجه في خمسة ادعاءات:

الحجاب لباس لبس: أي أنه وسيلة لإظهار ما تخفيه المرأة من مفاتن.
الحجاب لباس شهرة: أي علامة تجارية تجمع بين شهرة العلامة وشهرة الذوق.
الحجاب لباس إبداء: الحجاب يكشف المرأة أكبر مما يسترها.
الحجاب لباس إيذاء: التهجم على الفضاء العام.
الحجاب لباس عداء: الحجاب لباس ضد العالم الذي تتقاسمه عوائد الناس.

بعدما عد الدكتور طه عبد الرحمان آراء خصوم الحجاب وما يصاحبها من أحكام باطلةومناقشتها، بين القصد الصحيح من حجاب المرأة المسلمة الذي يحمل أبعادا قيمية وأخلاقية أكثر مما هو أداة للتستر أو التحجب، ولولا ذلك لما أمر الله سبحانه بغض البصر في الحالتين؛ حالة التحجب والتكشف.

مثال: إن نظرة خصوم الحجاب إلى المرأة المتحجبة نظرة ازدراء تقابلها نظرة احترام إلى المرأة المتكشفة، وهذا يوحي لنا بالتمييز والازدواجية الذي تتشدق الحضارة والحداثة باستئصالهما، نتج عن ذلك إخلال في العقل، بحيث ما هو تمييز باطل، عدوه عدلا تاما بينهن .

وهكذا يتبين أن الخصوم يلجؤون إلى جملة من المتناقضات، ويحلوا لهم توظيفها من غير تنبيه ولا تبرير، وهذا من فساد العقل وازدواجية المعاير في التعامل مع حجاب المرأة المسلمة، وتكشف المتبرجة حيث جعلوا الأول عنفا يهدد الفضاء العام، والثاني أمنا تطمئن له النفوس، بل منهم من عده من العلامات الدينية الكبرى.

لكن الحقيقة، هو أن الأول مبناه التدين بمفهومه الروحي والثاني مبناه التعقل المرتبط بالجسوم والرسوم، ولئن قلت لهم إن الله ختم رسالته بخطاب معنوي تستوعبه العقول بعدما أنس منهم الرشد، بعد أن خاطبهم ببادئ الأمر بلغة الرسوم والجسوم، لأجابوكبمبادئ العلمانية وما حققته من تمدن، رغم أخذها بالازدواجية والآخرية المباينة .

تكمن صلة حجاب المرأة بباطنها، عندما تزول عنه ماديته على قدر إيمانها الذي يستمد منه الحجاب روحانيته، ليحوِّل الباطن إلى ظاهر جلي، ماحيا تلك الظلمة المهيمنة على خيال المعارض له، ومن تم تضيف روحا آخرا إلى روحها، وهل تستوي ذات الروح الواحدة مع ذات الروحين، كلا وألف كلا .

بناء على كل ما سبق، يتبين أن اختصاص المرأة بالحجاب هو تمييز لها عن غيرها، يدفع عنها كل الالتباس الحاصل لدى خصمها بفعل تسترها وتحجبها، وعد كل ذلك من شدة حيائها، والحياء أساس الأخلاق، وبالأخلاق تزداد إنسانية الفرد او تنقص، وبما أنها تحب الحياة اختارت معها الحجاب لتعيش في أمان لا لترهب الناس أو تخيفهم.

الفصل الثاني: الحجاب والاعتقاد

خلال هذا الفصل وقف الدكتور طه عبد الرحمن سدا منيعا في وجه القائلين بأن الحجاب رمز الطائفية والتبشير والظلامية، بما يخفي من ورائه من أغراض غير معلنة، وبهذا القول قد ضلوا وأضلوا العباد بتقولهم هذا لاسيما حين رأوا فيه ما يهدد أسس العلمانية المتحررة من كل رقابة دينية، كما زعموا أن إلزاميته للمرأة يقوض الاختيار والتحرر، وهذا باطل عقلا وشرعا، إذ التدين الحقيقي مبني على الاختيار لا على الإكراه، إذ لا إكراه في الدين على ما هو مقرر.

كما قام بطرح هذه التهم ومناقشتها مبينا فسادها ونقط ضعفها، معززا موقفه بتقديم مجموعة من النظريات العلمية القائمة على القناعة الفكرية بعيدا عن كل التعصب لأي دين.

التهم الموجهة للحجاب لدى الخصم.
إلزام المرأة بارتداء الحجاب: الحجاب يسلب المرأة حريتها واختياراتها.
إذلال الحجاب للمرأة: الحجاب يذل المرأة أمام الرجل.
تعاطي المحتجبة للتبشير: الحجاب وسيلة لنشر الإسلام وفي ذلك تهديد صريح للعلمانية الغربية.
توظيف الحجاب في السياسة: توظيف الحجاب في السياسة هو تمهيد للنفوذ الإسلاموي.

الرد على هذه التهم وإبطالها.

بعدما استفرغ وسعه في بيان دعوى الخصم، قام بإبطالها بحجج علمية وعقلية، يعقلها الخصم ويعرفها كما يعرف صياغة دعواه.

1) إبطال دعوى إلزام المرأة بالحجاب: الأصل في الإنسان التدين وفق الفطرة التي خلق عليها، سواء كان صحيحا أو فاسدا، وبالتالي فعلاقة الحجاب بالمرأة هي إرادة نابعة من أصلها لا من سلطة خارجية كما يتوهم الخصم، غاية المرأة منه العروج إلى عالم الروح (عالم السعادة) الموسوم بالعلو، عكس عالم الحس(عالم الشقاوة) الموسوم بالتسفل.

2) إبطال دعوى إهانة المرأة:تصوُّرالعلمانيين إنبنىعلى المظهر الخارجي للمرأة في تحصيل كرامتها، والكرامة قيمة روحية لا تقاس بالحس، وبالتالي كيف جاز لهم أن يستدلوا بالمحسوس على المفهوم، فالأول متعقل والثاني ذوق وجداني يصل الفرد بربه إسراء وعروجا.

3) إبطال دعوى ممارسة المتحجبة للتبشير: المتحجبة تمارس الدعوى لا التبشير إذ التبشير غير وارد في جملة اعتقاداتها، في حين تبقى الدعوة من اختيارها. ولو كان الحجاب وسيلة تبشير لجاز لنا أن نقول التكشف هو أيضا وسيلة للتبشير.

4) إبطال دعوى تسييس المتحجبة للحجاب: هذا التصور في الحقيقة هو استيلاء الخوف والرعب على العلمانيين من الإسلام لا غير: (إسلاموفوبيا)، وهذا الخوف أفقدهم الصواب في التفكير والتعامل مع جملة من القضايا التي تتنافى مع العلمانية، آخذين الحكم بناء على المظهر الخارجي.

ومن خلال ما تم عرضه يتضح لنا أن الفكر الطهوي يقوم على أسلوب حجاجي في ترسيخ فكرة ما أو نفيها، بناء على جملة من المقومات والمقدمات المسلم بها والمتعارف عليها بين المتناظرين بغية إلزام الخصم بها وطرح ما لديه من فساد التصور.

الفصل الثالث: الحجاب والإعماء

خلال هذا الفصل تحدث الدكتور طه عبد الرحمن عن نظريات وتصور أحد الكتاب التونسيين (بنسلامة) الذي تأثر بنظريات التحليل النفسي عند فرويد وأستاذهلاكان، لاسيما عندما أخضع الإسلام إلى التحليل النفسي، وبالأخص قضية الحجاب الذي اختصره في أمور ثلاثة:
الحجاب لباس عورة: أي أن جسم المرأة كله عورة يجب ستره، أي أن الفقهاء المسلمين عدوا المرأة عورة، لذا فرض عليها الحجاب، وهذا نيل من كرامتها ونقصان لقيمتها.

الحجاب لباس لسد باب الفتنة: المرأة بمقتضى مفاتن جمالها تتسبب في الفساد الأخلاقي.
الحجاب ضد التبرج: إذ التبرج يبرز جمال زينة المرأة، مما يجعل الأبصار شاخصة نحوها، متوهمة فيها من الشهوات ما لا ينضب.
وكل ما ذهب إليه بنسلامة وغيره من خصوم الحجاب، هو تأويل لأحكام فقهية مستمدة من التشريع الإسلامي، وكأن الإسلام دين أضحى يتميز بتجريم المرأة لمجرد زينتها وجمالها وأنوثتها، والمتتبع لأحكامه يجد عكس ذلك.

بعد ذلك، قام الدكتور طه عبد الرحمن برد هذه التهم بعد تمحيصها وبيان فسادها واحدة تلو الأخرى، لأن هذا الإخضاع لا بد وأن يفضي بصاحبه إلى بناء أحكام واهية لا أساس لها من الصحة كما سنرى.

الرد على تهمة الإعماء أو التعمية: فالإعماء حسب بنسلامة وغيره من خصوم الحجاب، هو ذاك الشيء الذي يعمي جسم المرأة باعتباره عورة يجب تعميته لما يحمله من فحش وإذاية للغير بناء على تأويله لقصة أمنا خديجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،واستخلاصه منها ما بنى عليه تصوره الفاسد في تحليل الحجاب .

فتغيير الأسامي بغير قانون لغوي، كان وراء تخبط بنسلامة حين جعل الإعماء مرادفا للعور، بينما الجدر اللغوي لكل منهما يختلف عن الآخر (ع و ر= العور وع م ي= الإعماء والتعمية).

وبهذا يكون بنسلامة قد تخبط أسوأ التخبط في آرائه في تحليل الحجاب، لأنه اعتمد رؤية العين دون البصيرة ، وشتان بين هذا وذاك، إذ الأول محسوس والثاني روحي تتخطفه الأنوار من كل جهة.

وعليه، يكون بنسلامة قد أسرف في تشويه الحقيقة وتحريف الكلمة إلى هذه الدرجة، لأن العمى الذي يعاني منه هو عمى مضاف إلى نفسه لا غير ، لأن أدواته التحليلية افتراضات وتأَوُّلات لا تنفع بالمرة في الوقوف على معاني شهودية الحجاب التي تتأسس على صفاء الروح، تشهد صاحبته الحق سبحانه ويشاهدها، ليقع التجانس بين روح صاعدة وأخرى نازلة، ولا أدل على صفة الشهودية للحجاب من دائم اقترانه بالحياء، ولا خلاف بأن الحياء خلق شهودي بحق .

الفصل الرابع: الحجاب والإغواء

تحدث المؤلف في هذا الفصل عن آراء خصوم الحجاب والمتحفظين عليه القائلين بأن المقصود الأساسي من الحجاب، هو إخفاء الإثارة الجنسية التي تشكلها مفاتن المرأة، ليصبح على فساد زعمهم علامة دالة على حضور ما يخفيه بطريقته الخاصة، بل هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك حين جعله وسيلة لحفظ الإثارة الجنسية وإدامتها نظرا لدوام تخيله في تصور ما وراءه من مفاتن، ليصبح بشكل أو بآخر فيما بعد سبب الغواية والإيذاء.

فالحجاب يفقد خاصيته الحجابية حين يخل بعض شروطه: كأن يكون شفافا أو كشافا…فيصبح حجابا معميا لا يدفع عن المرأة الأذى ولا يقوم بوظيفة الوقاية،ومن تم تفتقد خاصيته الروحية، وإذا افتقدت هذه الخاصية أصبحت توصف صاحبته بالخيانة أكثر مما توصف بالأمانة التي أودعها الله إياها بعد أخذ الميثاق ، بينما الحجاب الروحي وظيفته تكمن في جلب إمدادات المعاني

وعليه، فالمستنتج من أقوالهم وتصوراتهم، أن الإسلام قد أضفى على حجاب المرأة، وبالتتبع على جسمها، ما لم يضفه دين سواه ، وهذا من غلط فهمهم وقصور عقلهم ومكرهم وسوء أدبهم مع الله.

الرد على دعوى جاذبية الحجاب.

يرى المؤلف وسيلتين أساسيتن لرفع هذا الالتباس الحاصل لدى خصوم الحجاب لاعتبار جاذبيته:

1) الخاصية الشهودية للحجاب:
إن الالتباس الحاصل لدى خصوم الحجاب هو عدم قدرتهم على التمييز بين البصر والبصيرة، إما جهلا للفروق الدقيقة أو إنكارا منهم لغاية مبيتة، وإذا كان الأمر على ما هو عليه، فهل يستوي صاحب المعرفتين مع معرفة واحدة، كلا وألف كلا.

وهنا يقرر طه عبد الرحمن حكما في غاية من الأهمية عندما يرى أن حقيقة الحجاب لا تدرك إلا بالبصيرة، بمعنى آخر:
الحجاب ليس شيئا وجوديا كأي لباس يكتفى في إدراكه بالبصر، وإنما هو شيء شهودي يستلزم إدراكه بالبصيرة، فيلزم أن العلاقة التي تصل المسلمة بحجابها ليست علاقة نفسية ذات طبيعة امتلاكية، وغنما هي علاقة روحية ذات طبيعة ائتمانية.

وهذا لا يعني أن المبصر بالبصيرة لا يبصر بالبصر، ولكن جعل البصيرة تنعكس على بصره حتى لا يرى شيئا إلا وكان الحق عينه، بدليل كان الله ولا شيء معه، وهو ما عبر عنه المؤلف بمقام الشاهدية الإلهية .

2) الخاصية اليوسفية للحجاب.
في هذه الخاصية فرق المؤلف بين الجمال اليوسفي والجمال الفينوسي:

فالجمال اليوسفي منشأه الروح، يبصر ولا يعمي (لباس يوسف رد عمى أبيه يعقوب)، ويبهر ولا يغوي، يوصل إلى الإيمان بوحدانية الجميل الأعلى.

أما الجمال الفينوسي منشأه الحس، يعمي ولا يبصر، ويغوي ولا يبهر، موصلا إلى عبادة الأشياء الجميلة .
فالأول قصده عبادة الواحد القهار، بينما الثاني قصده عبادة هواه.
ومن خلال التعريفين يمكن استنباط إشارات مهمة:

– الحجاب لا يصرف الأذى عن المتحجبة فقط، بل يصرفه عن الأقارب كما هو مستفاد من قصة سيدنا يوسف عليه السلام عندما جعل قميصه أداة لرد بصر أبيه، وكما هو معلوم فالقميص لا روح فيه ولا دواء ولكن بعث الله فيه دواء العمى، وهذا معنى الشهود الذي تقول به الطائفة.
– ليس الحجاب أمانة ائتمنت عليه صاحبته فحسب، بل أمانة ائتمن عليها كل من وقع في يده.
– الحجاب رائحته زكية تصيب من بعيد كما هو مستخلص من سورة يوسف عليه السلام، وليس التعطر بالعطور الفياحة.
– قد يكون الحجاب ابتلاء من الله، كما ابتلي أبو يوسف عليه السلام بالعمى.

ولهذا وجب الصبر على المتحجبة عند ابتلائها في فقد وظيفتها، أو حرمانها من حقوقها أو تمزيقه من طرف سلطان جائر…ولها في نبي يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام إسوة حسنة في الصبر والابتلاء.

الفصل الخامس: الحجاب والفقد
في هذا الفصل تحدث المؤلف عن فئة أخرى من خصوم الحجاب الذين زعموا أن الحجاب ينزل من المرأة منزلة البكارة،ومن الرجل منزلة القضيب، وعليه نقول إن تصورهم هذا لا يتجاوز تلك النظرة الاستمتاعية للتحجب لا غير.

وعلى هذا الأساس جاء رد طه عبد الرحمن على هذه الفئة (فرويد ولاكان)وبنسلامة المتأثر بنظرياتهما في التحليل المنطوي على الرؤية المادية والامتاعية للتحجب.

قال المؤلف: فهؤلاء الخصوم وقعوا في اختزالات ثلاث ينبغي بيان فسادها:
‌أ) رد المسلمة بكليتها إلى الجنس.
‌ب) رد الحجاب إلى البكارة.
‌ج) رد الحجاب إلى القضيب.
إبطال هذه الدعاوي.

1- رد المسلمة بكليتها إلى الجنس:العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة علاقة كاسية، لا عارية: بمعنى أن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة في المنظور الإسلامي لا تحصل بين جسدين خالصين، وإنما بين لباسين مسبلين؛ كل واحد منهما يكون لباسا مسبلا للآخر .

وعليه، فالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة في المنظور الإسلامي لا عري فيها.ومن تم ينتفي الاستمتاع الحسي عنها، وإن كان حاصلا بشكل مهذب يحفظ كرامتها، لا مسيب، لكن ليس هذا هو المقصود من العملية الجنسية بين الرجل والمرأة في الإسلام، بل المقصود هو تحصيل قيم أخلاقية عالية لا تنمحي بانتهاء الشهوة والمتعةكما في عالم الحيوان.
إذن، فالصلة الجنسية في المنظور الإسلامي صلة آياتية أكثر مما هي صفة ظاهراتية .

2- رد الحجاب إلى البكارة:
صاغ المؤلف ما يضاد هذه الدعوى بصريح العبارة، فجعل الحجاب تحصين، وحصن، واستعصام للذات وللآخر. والحصن لا يطؤه من يشاء لما له من حرمة ومنعة.

والاستعصام من العصمة التي اختص بها الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام (عصمة كلية)، واستعصام المرأة بالحجاب هو (عصمة جزئية)اختصت بها في حفظ جسمها وبكارتها بواسطة التحجب، وهذه العصمة الجزئية تحتم عليها الفرار من إبليس ومن نفسها إلى ربها في علاقة ائتمانية أكثر مما هي ائتمارية، إذ لا كمال إلا بامتثالهما معا.

وعليه فالحجاب هو حصن حصين للمرأة والرجل معا، وذلك لكي تنتفي تلك النظرة الجنسية المستصحبة بالشذوذ، وتستبدل بقيم روحية وأخلاقية تحكمها علاقة ملكوتية أكثر منها ملكية.

3- الخاصية الاستكمالية للحجاب.

في هذا الفصل بين المؤلف أن الحجاب لباس المرأة والرجل معا، لأن القيم الروحية التي يبثها هي قيم أخلاقية يشترك فيها الرجل والمرأة بحسب الاجتهاد في تحصيلها وتمثلها انطلاقا من الاعتبار الائتماري وصولا إلى الاعتبار الشاهدي ، يستصحبه شعور بالشاهد الأعلى، وهو شعور روحي يتعلق بصفة من صفاته العليا سبحانه (البصير)، ومن تم تسقط نظرية فض البكارة والاخصاء عن الحجاب عن الجنسين معا.
الشاهدية الإلهية هي الأصل في الحياء، لأن المتحجبة تستحيي أن يراها الشاهد الأعلى متكشفة، فأصبح تعاملها مع الله تعامل شهودي أكثر مما هو تعامل وجودي، وهذه الحقيقة غابت عن خصوم الحجاب كما غابت عن أنصار الحجاب في دفع هذه الشبه .

الحجاب حياء، والحياء خلق من الأخلاق الإسلامية والأخلاق من الله بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: فرغ ربك من أربع: خلق وخلق ورزق وأجل.

قال المؤلف:أكملية أخلاق الحجاب لا تختزل في خلق واحد، بل تتفرع عنه أخلاق أخرى، إلا أن الحياء أكملها، باعتبار خاتيمة الدعوة الإسلامية .
إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء .
الحجاب لباس وأخلاق الإسلام أخلاق لباس يرتقي بها الإنسان من نقص إلى كمال.

خاتمة
خير ما يمكن أن نختم به هذه القراءة هو ما تم استنتاجه من أفكار قيمية رمز لها المؤلف بإشارات ينبعث منها روح التجديد في فهم دلالات النصوص القرآنية والحديثية.
– ينزل الحجاب من ظاهر المرأة منزلة لباس التقوى من باطنها، ولباس التقوى كله نور.
– النور أصله ملكوتي يضفي على الحجاب جمالا يخلب الألباب.
– الحجاب يكَبّر المرأة ويعظم مقامها، والإكبار من محاسن الروح، بينما الإعجاب من جمال الصورة. الأول ملكوتي والثاني ملكي أي المراد من جمال الصورة هو امتلاكها.
– الحجاب يورث المرأة جمالا روحيا أيا كان نصيبها من ملامح الحسن الظاهر.
– الحجاب يرقى بالمرأة من مرتبة البشرية إلى روح الملائكية.
– التحجب يحرك الشهوة في ميت القلب أكثر مما تحركه المتكشفة. (قصة يوسف عليه السلام).
– المتحجبة لا تستسلم لمراودة ميت القلب لأن حجابها أمر ملكوتي تحفظه الملائكة.
– المتحجبة لا تنتصر لنفسها بقدر ما تنتصر لخالقها عند الإذابة.
– مهما فعل تجار التكشف من حيل ومكر، فالله يتولى حفظ الحجاب
وهو خير الماكرين.
– المرأة المتحجبة بفضلها يحصل للرجل اليقين بإلهه. (قصة محمد صلى الله عليه وسلم مع أمنا خديجة رضي الله عنها في بداية نبوته).
– الحجاب يصن المرأة والرجل معا.
– ظهور الحجاب في الفضاء العام يذكر الخصوم بالإله الحي.
– الحجاب طهارة الظاهر والباطن، طهارة الظاهر حسية وطهارة الباطن روحية.
– الحجاب رمز للحياء، إذن الحياء حقيقته والحجاب مجاز.
– الحجاب لباس أخلاق بما أفرده الله من العناية في النصوص التشريعية التفصيلية.
– الحجاب لباس المرأة والرجل، لأن الأخلاق الإسلامية لا تختص بأحد منهما وتنفصل عن الآخر.
وبناء على هذه النتائج المتوصل إليها، تنتفي كل دعاوي خصوم الحجاب، لأنها مجرد أباطيل أريد بها غواية المرأة المتحجبة، والباطل مهما كثر واستعلى إلا كان زهوقا، فما بني على باطل فهو باطل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *