وجهة نظر

علاقات تحكمية تهدد نجاح الإصلاح التربوي الجديد

في خلال المشاورات القاعدية التي أطلقتها وزارة التربية الوطنية خلال ولاية الوزير بالمختار، ظلت أصابع الاتهام تتجه يمينا وشمالا ؛ يشير كل طرف إلى سواه، ويتهم كل طرف غيره، ولا أحد ينبري ليعترف بجزء من مسؤوليته فيما آلت إليه المنظومة، من خَوَر واهتراء.

فالأستاذ يحمل المسؤولية لصناع القرار التربوي، وللمناهج، والبرامج، والمقررات المدرسية، والإيقاعات الزمنية، والمدير للوزارة التي لم تحسم في وضعيته الإدارية والقانونية، والمفتش للمناهج الملتبسة، والإيقاعات الزمنية التي لم تسعف التنزيل السليم لقرارات الإصلاح، وتوصيات الخبراء، والوزارة للأستاذ والمدير والمفتش،.. وهكذا دواليك، تتراشق الأطراف التهم، وتتقاذف المسؤوليات حول فشل الإصلاح، وتعثر النهوض، وتدني المستوى، وذيلية الترتيب.

غير أنه لا أحد اعترف بأنه جزء من المشكل، كما أنه جزء من الحل. وأن الإصلاح لن ينجح إلا بتظافر الجهود- كل الجهود- في لملمة المسؤوليات، و النزول إلى طاولة النقد الذاتي. وأنه قد آن الأوان لإعادة توزيع الأدوار داخل رقعة المسؤوليات، وعلى قاعدة الالتزام باستنفاذ الجهد المشترك، الكامل والأكمل، في القيام بالدور المنوط بكل طرف، داخل جماعة الفاعلين، وتحمل المسؤولية الجماعية الكاملة في مخرجات المهام الموكولة.

ولعل من أهم الأسباب المُفشِلة لمسارات الإصلاح، والتي ستبقى داء مزمنا يعرقل كل محاولة جديدة لتنزيل مقتضيات إصلاح جديد، ما لم يتم تداركه بالتغيير البشري الجذري والعميق؛ هو الجفاء الذي تعرفه العلاقات العمودية بين مختلف مكونات المنظومة التربوية، في شقها الإداري على وجه الخصوص، وتوقف كل طرف عند حدود مسؤولياته، دون العمل على تجسير التواصل مع باقي المكونات، ومشاركة المُنْجَز مع الأطراف التي تليه في التسلسل الإداري. مما حول هذا التسلسل إلى نتوء متفرقة، بعد أن فقد العديد من حلقاته الأساس، وصارت التعالقات بينها إلى استبداد خفي تمارسه السلطة الأعلى على السلطة الأدنى.

فقد صارت العلاقات الهرمية بين مختلف هذه الحلقات/المكونات إلى علاقات تتأسس، فقط، على “الأمر اليومي للتنفيذ”، في حين تغيب عنها حرارة المشاركة في التنزيل. مما حول أغلب المسؤولين إلى كسالى يعملون تحت الطلب، ولا يبادرون إلى الاجتهاد، والإبداع، والعطاء الحر. فصارت اجتهاداتنا هملا، وأعمالنا خبط عشواء.

فالكثير من المسؤولين-للأسف- لا زالوا لم يستوعبوا، بعد، المفهوم الجديد لسلطة التدبير، والتي يجب أن تتأسس على المواطنة التي يؤطرها القانون، ولا شيء غير القانون. فظن الكثير منهم أن السلطة تعني ” اتخنزير” و”تخراج العينين” ، إذا تعلق الأمر بمعاملة المرؤوسين. فاكتفوا بوضع مسافة بينهم وبين مرؤوسيهم، وجعلوا من المكتوب الصلة الوحيدة التي تربطهم بهم. مما حول هؤلاء إلى منفذين تحت الطلب، وغاب الاجتهاد الحر، والإبداع المؤسس، والعطاء الباني الذي لا يبغي جزاء ولا شكورا. وغاب “حب القميص” عند الكثير من الممارسين المباشرين للشأن التعليمي/التربوي، حتى تحول عملهم الكسول والمرهون بالأوامر العليا، إلى مثبط حقيقي للإصلاح.

فالإصلاح ليس في حاجة إلى تدابير، ورؤى، وتصورات جديدة، فقط، بل الأهم هو وجود مصلحين حقيقيين، يستوعبون مقتضياته، ويؤمنون به، و يعملون على تصريفه بحب، ونكران ذات. ولا يمكن أن نستنهض هذه الهمم الغيورة، التي لا شك تَعِجُّ بها ساحتنا التربوية والتعليمية، إلا بإشاعة المفهوم الجديد للسلطة، التي تتأسس على الاحترام المتبادل بين الأستاذ والمدير، والمفتش، والمدير الإقليمي، والجهوي وسائر مكونات المنظومة التربوية؛ فيصبح المسؤول يمارس مسؤوليته، إزاء مرؤوسيه، بمواطنة، لا تعني أبدا القفز على القانون، أو إخلافه، بل تعني التطبيق الصحيح والسليم والمواطن للقانون، والمشاركة “المتواضعة” في تنزيل الإصلاح، ومقتضياته؛ بدل الاستعلاء بالمنصب، وحصر التواصل في الأمر المكتوب، والبحث عن الأخطاء، والشطط في المحاسبة، والمتابعة، والتقييم.

ولقد ظللت أمثل، في أكثر من مناسبة تدفعني للحديث عن هذا المثبط من مثبطات إنجاح الإصلاح، بذلك الشرطي الذي أوقفني، ذات يوم، بسبب ارتكابي لمخالفة سير، فأخذ يسألني ، بلطف غير مسبوق، عن أحوالي وأحوال العائلة، وظروف العمل، والابتسامة لا تغادر محياه، حتى ظننت أنه يعرفني، كما ظننت أنه سيتجاوز عن مخالفتي، لكنه ظل يحدثني بكل هذا اللطف، وهو يسجل المخالفة، ليسلمها إلي. فكانت أول مخالفة أؤدي ثمنها وأنا في غاية السعادة أَنْ يوجد في صفوف رجال الأمن مثل هذا الشرطي المواطن، الذي استوعب المفهوم الجديد للسلطة، ومارس واجبه في تطبيق القانون؛ دون أن يستفز، أو يستعلي، أو يشطط . أو بمثل الشرطي في الدول التي تحترم نفسها ومواطنيها، وتمارس احترام حقوق الإنسان؛ حقيقة لا ادعاء، حينما يقبض على المجرم، ويعرفه حقوقه، ويقترح عليه انتداب محام يدافع عنه. لأنه –بكل بساطة- يعلم أن ثمة قانونا وقضاء، هو الفيصل والحكم، لذلك لا يَجْهد نفسه كثيرا في التكشير عن أنيابه، أو تقطيب جبينه، أو الصراخ في غير جدوى.

فكنت أقول مع نفسي: لو استفاد الذي يدبر بجبين مقطب، ووجه متجهم، وسحنة مكفهرة،… أو ذاك الذي عينه على الأخطاء، والزلات، التي لا يسلم منها مخلوق؛ يتتبعها. أو من لا يرى المخطئ إلا الآخر، ولا يفهم من الإصلاح إلا “الأمر من أجل التنفيذ”، ومن الحوار إلا “العين الحمرا”. أو ذاك الذي يمسك يده عن تحفيز المجدين، وشكر المبدعين، وتقدير عمل المبادرين، ويضعهم والمتقاعسين، في سلة واحدة؛ مع ما للتحفيز من وقع السحر على إشعال فتيل روح المبادرة، والمنافسة، والعطاء الذي لا ينقطع… لو استفاد كل هؤلاء من درس هذا الشرطي، لكان لنظامنا التعليمي والتربوي شأن آخر ..

إن المشكل الذي تعاني منه منظومتنا التربوية، ويجعل وضعنا التعليمي والتربوي المهترئ يراوح مكانه منذ عقود، رغم مبادرات الإصلاح الرائدة التي اعتمدها صناع القرار التربوي، ليس ناتجا عن خلل في المناهج، أو البرامج، أوالمبادرات، أو التدابير،… ولكن المشكل في علاقاتنا العمودية التي تحولت إلى مُزَق وشظايا، وطغى عليها الكثير من الاستبداد بالأمر، والتسلط بالتوجيه، والاستعلاء بالفكرة والمقترح. مما حول الأوامر والتوجيهات إلى أثقال يحملها البعض عن ظهره ليسرع برميها إلى غيره، وهكذا حتى يستقر بها المقام عند باب المؤسسة؛ فينسحب الجميع من حلبة الإصلاح، وتبقى المؤسسة تكابد- لوحدها- في فهم ما يجب وما لا يجب .. والكل يحملها تبعات جرم ما تقترفه في حق المنظومة، وفي حق المتعلم. ولا أحد يتطوع ليُعَرِّفها بحقوقها، أو يشرح لها واجباتها، أو يشاركها جزء من المسؤولية في تحمل عبء تنزيل مقتضيات الإصلاح!.

دمتم على وطن.. !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *