وجهة نظر

جمال في سماء الأمة!

“الحمد لله الذي لم يجعل للجِمال أجنحة…” هكذا استهل جحا خطبة الجمعة ذات نكتة. ولكم أن تتخيلواْ ما تلا هذا الاستهلال في خطبة جحا من سيناريوهات لتحليق الجمال بأجنحتها في سماء تلك البلاد وكيف أنها كانت ستحدث فوضى عارمة عند إقلاعها وكوارث لا تعد ولا تحصى عند هبوطها، ناهيك عن فضلاتها الكبرى ومخلفاتها الثقيلة التي ستنزل على رؤوس الجميع أثناء تحليقها!

لو كان جحا معنا اليوم لما استخدم مخيلته كثيراً ليشرح لجمهور المصلين ما كان سيحل بهم لو كان للجِمال أجنحة، فقضية الساعة توضح بجلاء نقمة الأجنحة على ظهور الجمال ومصيبة تحليق الجمال فوق رؤوسنا!

الكل يعلم أن قضية الساعة بدون منازع هي مقتل “جمال خاشقجي” رحمه الله في مسلخة (عفواً قنصلية) بلاده المملكة العربية السعودية بإسطنبول التركية (وبالمناسبة لا بأس من تصحيح معلومة بعض مدعي الصحافة المأجورين في بعض الدول شقيقة السعودية بالقول إنها قنصلية عامة وليست سفارة لأنها موجودة في اسطنبول وليست في أنقرة عاصمة تركيا).

منذ اختفائه ثاني أكتوبر الجاري، وتداعيات الكشف عن مصيره، بدءاً بإنكار السعود، ثم اعترافهم بتصفيته الجسدية داخل القنصلية، وانتهاء بمطالبة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها بالكشف عن الحقيقة كاملة وليس عن نصف الحقيقة فقط، قصد المرور إلى المرحلة التالية وهي تحديد المسؤوليات ورأس الحربة ومن ثمة فرض العقوبات على مقترفي هذا الفعل الشنيع الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الديبلوماسية الحديثة.

وأُسطرُ على الحديثة، لأنه لم تفتضح أي هيئة دبلوماسية منذ اتفاقية فيينا في أمر من هذا القبيل. لم يحدث هذا لا في أيام الحرب الباردة ولا أيام كان الموساد الاسرائيلي يجول ويغتال ويختطف من يريد في العالم، ولا حتى أيام هجوم “ثوار” الخميني على السفارة الأمريكية بطهران، والكل يعلم أن سفارات وقنصليات الدول، وخصوصا الأنظمة المهيمنة أو الاستبدادية استُخدمت ولاتزال كقاعدة للقيام بأعمال أخرى غير الدبلوماسية، موجهة ضد دول أخرى أو ضد مواطنيها المغترِبين أو المغَربين!

المهم، لم يسبق أن اتخذت إحدى عمليات تلك الأجهزة “الدبلوماسية” منحى قضية خاشقجي ولا أبعادها وتداعياتها. فقد تكون وحشية الجريمة مشابهة لعمليات اغتيال أخرى ذهب ضحيتها شهداء حرية لم يظهر لهم أثر وظل مرتكبوها بلا عقاب لحد الساعة، لكن غباءها لا يضاهيه غباء. فمن الملام على هذا العمل الأرعن؟

قد تحمل التحقيقات جديداً في هذا الباب، من قبيل تحميل المسؤولية لرئيس “القحطاني” شخصياً، أي ولي عهد السعودية. وإن ثبت تورطه في الجريمة، سيفي الغرب بالتزاماته بهذا الخصوص، أي سيفرض عقوبات على بلد “الحرمين” من حظر بيع الأسلحة لها (حسب الموقف الألماني) إلى عقوبات اقتصادية أكثر شمولية كما قال الرئيس الفرنسي، دون الحديث عن الولايات المتحدة التي يتزايد فيها الآن الديمقراطيون والجمهوريون حول “القصاص” الواجب تطبيقه على السعودية “المارقة”…

إنْ سارت الأمور كما هو متوقع، أكيد أن البقرة السعودية الحلوب ستسقط وستكثر السكاكين، لكن من المستبعد أن تلجأ الدول الغربية إلى عقوبات أحادية، بل ستفضل اللجوء إلى استصدار عقوبات متعددة الأطراف والأفضل أن تكون صادرة عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي… لماذا؟ ببساطة لكي تقيد الدول الكبرى الأخرى (روسيا والصين اللتين عبرتا عن موقف عملي من الحادثة أي الاستناد إلى أدلة علمية ومعلومات رسمية مؤكدة للحكم) وتمنعها من الاستئثار بالغنيمة، دية قتل خاشقجي الغالية جداً التي سيدفعها شعب المملكة لأجيال متلاحقة.

إذاً، الملام ليس الأرعن الذي طلب رأس خاشقجي الذي اعتقد أنه أعطي له على طبق من ذهب فإذا به طرد ملغوم، ولا خاشقجي الذي دخل المسلخة برجليه وهو مَنْ يعرف جيداً مع مَنْ يتعامل منذ أيام “بن لادن”، ولا تركيا ولا ترامب ولا بنو قحطان ولا بنو سلمان…الملام هو من صنع لذلك الجمل البليد أجنحة وقال له: طِرْ فوق الأمة! بينما جعل الله الجِمال والنوق بلا أجنحة، والحمد لله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *