وجهة نظر

“الأميات” التي مكنت لهم من رقابنا !

لا تكاد تحضر اجتماعا أو تجمُّعا يبغي البث في “كعكة” الكراسي والمناصب، ويُعِد عدة التوزيع والتراضي، حتى تصطدم بمجتمع مُصَغَّرٍ ينقل إليك الصورة المتحركة للمجتمع السياسي الكبير الذي يمثله “الكبار” في ساحة العراك السياسي، والمجاذبات البرنامجية بين المعارضات والأغلبيات التي يضج منها بلدنا المقهور تحت وطأة زمرة “الشلاهبية” وقاصري النظر والفكر، وأميي السياسة والتسيير، وفاقدي الشرعية الأخلاقية،…

لقد سرت حمى “التهافت” على الكراسي والمناصب في شرايين المجتمع الثقافي والفكري والتربوي والاقتصادي بذات الحدة والقوة الذي تسري به في المجتمع السياسي: الأصل والمنبت لهذا الداء العضال الذي تمكن في نفوس رعاع الأمة، من الباحثين عن المناصب المقربة من دوائر المخزن، وحياض السلطة الحامية من عوادي المتابعات والمحاسبات !.

فلا فرق بين القاصدين إلى العمل في دوائر القرار السياسي من أجل الحصول على الحصانة والاقتراب من ذوي النفوذ، ومن يقصد إلى ذلك تطوعاً وعطاءً. فالكل في السعي إلى الظهور في دائرة الضوء والاهتمام، سواء !. فلا تكاد تجد لهذه النفوس المتلهفة إلى الذكر والاهتمام الذي فقدته في الجد والاجتهاد، والعطاء والتضحية، ما يفارقها ويميز قلوبها المُتَيَّمَةُ بهذا الحب الأزلي من فرق أو تميُّز.

لكن الطامة الكبرى أن تنتهي “الديمقراطية الغربية” المستنسخة في مجتمعاتنا المتخلفة، إلى نقل أجسام خاوية إلى سدة التسيير والحكم، بعد أن يمكنهم الاحتكام إلى رأي الأغلبية العددية (عيب الديمقراطية القاتل)، من هذا المكسب/ المغنم الذي تتلهف إليه قلوب الراغبين في تزعم الناس، وحكمهم، وقيادة هاماتهم التي مَكَّنُواْ منها من يصافحهم بالوجه البشوش إبان الحملات الانتخابية، ثم يوليهم الأدبار بعد أن يفوز بأصواتهم الرخيصة.

وإنما سميناها “ديمقراطية غربية” لأنها إنما نشأت في الغرب وعند الشعوب والمجتمعات التي تحترم نفسها وعقلها، وعند من تشكل نسب الأمية في صفوف مواطنيها، متعلميهم(!) وغير متعلميهم، نسبا معقولة في ميزان النمو الاجتماعي والتنمية البشرية !.

فإذا كانت الأمية عند عامة الناس من ساكنة البلدان العالمثالثية أو البلدان المتخلفة هي الأمية الأبجدية بما تعنيه من عدم القدرة على فك رموز الكتابة أو ممارسة ذات الكتابة برموز يقرؤها كل متعلم، وهي الأمية التي تمثل بنسبها المرتفعة في بلداننا المتخلفة القاعدة الجماهيرية الكبرى للطبقة السياسية المُمَكَّنة من رقاب الناس بـ”فضل” آلية “الديمقراطية الغربية”: الأغلبية العددية؛ فإن الأمية التي نقصد هاهنا، والتي جعلناها قصد هذا المسطور وفَصَّهُ؛ أُمِّيَّاتٌ !.

فلا يظنَّنَّ ظانٌّ أن الأمية محصورة في هذا الشق الأبجدي الطاغي في بلداننا المتخلفة، فيسير إلى اعتبار المجتمعات المتعلمة المصغرة، في المدن والقرى والأحياء والحارات غير معنية بها، فيحكم على قرارات تجمعاتها “العالمة” أنها ديمقراطية، وعلى نتائجها أنها موفقة إلى نقل الكفاءات النزيهة إلى سدة الحكم والتسيير والتدبير. لأن هذه المجتمعات المتعلمة المصغرة، كما المجتمع الكبير، لا تَعْدِم وجود نسب معتبرة من الأمية موضوع الاقتراع والتباري “الديمقراطي” !.

فقاعدة المجتمع المتعلم المصغر الذي يؤسس لقيادة علمية أو فكرية أو فنية أو ثقافية أو اقتصادية في المجتمع المتخلف “النامي”، قاعدة بقدر من الأمية العلمية والفكرية والفنية والثقافية والاقتصادية لا تقل عن القدر الذي تمثله الأمية الأبجدية والسياسية في المجتمع الكبير، حيث يتلاعب السياسيون بعقول الناس وجهلهم وأميتهم لكسب الأصوات والمكاسب.

فالأغلبية في كلا المجتمعين- المُصَغَّر المتعلم والكبير الأمي- هي الحاكمة والمحتكم إليها في رفع الأجسام الراغبة في حكم الناس وتسيير مصالحهم بغض النظر عن كفاءتهم العلمية، أونزاهتهم الأخلاقية، إلى سدة التسيير والحكم والتدبير. فغالبا ما يتغاضى جمهور المجتمع المتعلم (الأغلبية الأمية)عن شرط الكفاءة والعطاء والقدرة على التسيير والاجتهاد في المُمْكن لدى من يعطيهم صوته لفائدة الصراخ والجوقة المفتعلة التي يحدثها من “نقلوهم” إلى المناصب والكراسي؛ حتى لَيَخَال هذا الجمهور، المسحور بفن الخطابة وقوة الادعاءات والمرافعات، أنه أمام فريد الزمان، والمُخلِّص الذي لم يَجُدِ الزمان بنظيره، فيقدم صوته الغالي قربانا بين يدي “سيده الجديد” وكأن على عينيه غشاوة، وعلى عقله رَانٌ. كما لا يستحيي-في المقابل- من يفتقد هذه الكفاءة والقدرة والنزاهة على الإقدام بترشيح نفسه لتقلد المنصب؛ فينتهي به الحال إلى سدة المنصب، بـ”قدرة” أغلبية أمية فاقدة لما تعطي !.

فالمجتمع المتعلم المصغر الأمي أمية ثقافية وفنية واقتصادية وعلمية، وإعلامية ومعلوماتية ووو… لا يقل-انبطاحا وإذعانا لزمرة القادة والخطباء المفوهين- عن المجتمع الكبير الأمي أمية أبجدية. فكلا المجتمعين مُسْتغَلٌّ من راغبي المناصب وعبدة الكراسي. فالأول حظهم فيه قاعدة جماهيرية متعلمة لكنها أمية لجهلها بشروط النجاح، ومعايير الاختيار، ولإصابتها بـ”فوبيا” المكانة الاجتماعية والاعتبارية للمترشح. والثاني حظهم فيه قاعدة جماهيرية أمية جمعت بين أمية التعلم وأمية الجهل بالواقع موضوع الإصلاح والتغيير، وكذلك بالانبهار الطفولي، وبـ”التقدير القهري” الذي يمارسه المترشح على طبقة الكدح والاستغلال.

إن الديمقراطية بمفهومها الآنف لا يمكن أن تنجح في تشكيل قيادة كفأة وذات مؤهلات مُجَدِّدَة وبانيَة، حتى تحتكم إلى أغلبية عالمة بشروط القيادة الناجحة وأدوات التغيير والإصلاح الملائمة لواقعها المعيش.. مُتَخَلِّصَة من تأثير البهرجة والصراخ والتباكي على أطلال “المصلحة العامة” !. لأجل ذلك نجحت الديمقراطية في الغرب في نصب هذه القيادات، وتمكنت من اقتحام عقبة التغيير. لأنها، بكل بساطة، احتكمت إلى أغلبيات عالمة، مثقفة، ذات رؤى وتصورات مُؤسسة، غير خاضعة لخطابات الوعود، وموائد الزرود !. أما الديمقراطية في مجتمعاتنا المتخلفة فستظل تُخَرِّج لنا قيادات “كرطونية”، و”دكاكين” سياسية ونقابية وجمعوية،… أَبَدَ الدهر، ما احتكمت إلى أغلبية أمية- متعلمة وغير متعلمة- وقبِل مُعْمِلَوها ترشيحات كل ناعق وزاعق. وستظل كذلك حتى تثور نفوسنا الأبيَّة ضد التلاعب بمصائرها، وتَقْدُمَ على محاربة هذا الغول المقلق..!!!

دمتم على وطن..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *