وجهة نظر

قراءة في المادة 102 من مشروع قانون التنظيم القضائي 38.15

لازال مشروع قانون التنظيم القضائي 38.15 يثير العديد من ردود الأفعال ويخضع لقراءات اختلفت مشاربها بين باحثين أكاديميين وقضاة واطر كتابة الضبط وغيرهم، ولا ينفك هذا المقال أن يخرج عن سياق هذه التجاذبات القانونية والفكرية بحكم ارتباطنا الواقعي والممارسة العملية للإدارة القضائية ،نقف من خلاله عن مضمون المادة 102 والمساهمة في استجلاء الخيط الناظم والرفيع بين عمل كتابة الضبط في الشق المتعلق بالإجراءات القضائية وبين عملها الذي يدخل في صميم الإدارة القضائية وما يستتبع ذلك من تحديد المسؤوليات والجهة التي ستشرف على كشف هذه المسؤوليات من خلال عملية التفتيش. وباستقراء للمادة 102 نجد أنها تشير إلى جهتين مركزيتين تقومان بعملية التفتيش الإداري :

1.المفتشية العامة التابعة لوزارة العدل:

إذا كان قانون التنظيم القضائي الحالي رقم 1.74.338 (15 يوليوز 1974 ) خاصة في الفصل 13 منه يجعل مهمة التفتيش من اختصاص وزير العدل الذي ينتدب للقيام بهذه المهمة قضاة من محكمة النقض أو ممن يزاولون مهامهم بالإدارة المركزية ولا يشير إلى تسمية هذه الجهة بالمفتشية العامة، فإن المادة 102 من مشروع القانون 38.15 المتعلق بالتنظيم القضائي جاءت بعبارة واضحة وصريحة تؤكد على أن التفتيش الإداري هو من اختصاص المفتشية العامة باعتبارها أداة للرقابة والتقييم في كل ما له علاقة بمهام مصالح كتابة الضبط وتتبع في مهامها للسلطة المباشرة لوزير العدل.

تبدو هذه المعطيات لا تحمل جديدا وواضحة في مدلولها ومآلتها غير أن ما يثير الانتباه هو تأكيد المادة المذكورة على أن تمارس المفتشية العامة مهامها بما لا يتنافى واستقلال السلطة القضائية ، وكأننا أمام جهاز إداري لكن يحمل في طياته بعضا من الميول أو الانزلاق نحو قيام بمهام لا تدخل في العمل الإداري بل في العمل القضائي فيمس بمبدأ الاستقلالية .

إن تخوف المشرع لم يأتي من فراغ نظرا لخصوصية المساطر القضائية والتداخل المرتبط بين الإجراءات القضائية التي هي من صميم الإدارة القضائية وبين العمل القضائي إذ قد تعترض المفتش حالات معينة تقيده عن التعليق أو حتى التساؤل كأن يصادف مثلا أمرا تمهيديا أو محضرا غير موقع من طرف القاضي، ففي هذه الحالة هل يستدعي المفتش التابع لوزارة العدل القاضي ويسائله أو يستمع إليه بخصوص هذه الهفوة؟ الجواب بالنفي طبعا استنادا إلى الفقرة الأولى من المادة 102 والتي تنص على أنه ” تتولى المفتشية العامة للوزارة المكلفة بالعدل تفتيش مصالح كتابة الضبط بالمحاكم، بما لا يتنافى واستقلال السلطة القضائية، طبقا للنصوص التنظيمية والتشريعية الجاري بها العمل ”

فالبنسبة للتفتيش القضائي فالأمر قد حسم طبقا للمادة 101 من مشروع القانون 38.15 التي أكدت على أنه ” تقوم المفتشية العامة للشؤون القضائية المنصوص عليها في القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية بالتفتيش القضائي للمحاكم. ”

وبالرجوع للفقرة 3 من المادة 87 من القانون التنظيمي 100.13 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية نجدها تنص على أنه “يتولى القضاة المفتشون، تحت إشراف المفتش العام للشؤون القضائية، إجراء الأبحاث والتحريات.” .

غير انه وعند مقارنة المادة 102 من مشروع القانون 38.15 بالمادة 107 منه نجد أن المشرع أعطى أيضا للمفتشين التابعين لوزارة العدل الحق في الاستماع إلى المسؤولين القضائيين حيث جاء في فقرتها الأولى ما يلي” يتوفر المفتشون على صلاحيات البحث والتحري، تمكنهم من: -الاستماع إلى المسؤولين القضائيين والمسؤولين الإداريين والموظفين وكل شخص آخر يرون ضرورة في الاستعانة بإفادته؛ ”

وهذا يتنافى والوضعية الدستورية والقانونية للسلطة القضائية حيث ينصب السلطة التنفيذية في شخص المفتشية العامة أداة للرقابة على العمل القضائي مع العلم أن المشرع كان بإمكانه في أكثر من موضع تلافي هذا الخلط وهذا التداخل بين السلطتين والدفع في اتجاه تعاون وتناسق عملهما بدل التدخل الصريح والتجاوز المعلن لحدود سلطة لأخرى.

وإذا كان البعض يعمق من التحليل إلى درجة البحث في نية المشرع والقول أن مسألة الاستماع إلى المسؤولين القضائيين هي فقط على سبيل الإحاطة علما والإدلاء بإفادتهم في الموضوع ليس إلا ، فإن الجواب على ذلك تحمله نفس المادة أعلاه اي المادة 107 في فقرتها الأخيرة التي نصت على انه “غير أنه إذا تبين أن الأمر يستدعي الاستماع إلى قاض، تتولى المفتشية العامة للشؤون القضائية، في هذه الحالة، القيام بهذه المهمة.” حيث سوت هنا بين الاستماع إلى المسؤول القضائي والقاضي المخل ولم تشر إلى أي استثناء يخص المسؤول القضائي أو تفسير الاستماع إليه من طرف مفتشو وزارة العدل على أساس أنه إفادة فقط ،ناهيك أن مصطلح الاستماع في حد ذاته يحمل حمولات زجرية ونفسية تفتح الباب لكثير من التأويلات ، فكان على المشرع تفادي هذا الأمر والاقتصار على أخذ نظرية المسؤول القضائي أو إفادته مكتوبة عوض النص على الاستماع إليه انسجاما مع مقتضيات المادة 101 من مشروع قانون 38.15 التي تحيل على القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية في شان التفتيش القضائي.

وتخضع المفتشية العامة لسلطة وزير العدل بشكل مباشر بما لا يدع أي مجال للتأويلات في ما يخص التقارير المنجزة من طرفها أو في ما يخص الانتداب للقيام بمهام التفتيش في المحاكم التي ترى فائدة في مراقبة وتقييم عمل مصالح كتابة الضبط بها.

وتجد تبعية المفتشية العامة لسلطة وزير العدل سندها القانوني في المرسوم رقم 2.10.310 الصادر بتاريخ 11 ابريل 2011 بتحديد اختصاصات وتنظيم وزارة العدل وخاصة المادة 3 منه التي تنص على أنه ” تمارس المفتشية العامة، تحت السلطة المباشرة للوزير…”.

وهكذا فقد حرص المشرع وفق هذا المقتضى على التنزيل السليم لمقتضيات الفصل 107 من الدستور في شان استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. غير أنه لم يكن موفقا بالنسبة للشطر الثاني من المادة موضوع الدراسة وهذا ما سنتطرق إليه من خلال المحور الثاني.

2.المسؤولين القضائيين والكاتب العام:

بالرجوع إلى المادة 102 من مشروع القانون 38.15 يتضح أنها قسمت التفتيش الإداري بين جهتين مركزيتين المفتشية العامة والمسؤولين القضائيين والكاتب العام مع العلم أنها جاءت بعد أن سطر المشرع الفصل الثاني تحت عنوان ” التفتيش الإداري والقضائي” وإفراد التفتيش القضائي بمادة فريدة تحيل فقط على القانون المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية فلماذا يتم إقحام المسؤولين القضائيين (الرئيس الأول والوكيل العام) في المقتضيات الخاصة بالتفتيش الإداري للمحاكم، فبعد كل هده المقدمات والتأسيس لاستقلال السلطة القضائية على السلطة التنفيذية يتم الانقلاب على كل ذلك وإعطاء مهام التفتيش الإداري لجهة قضائية أوالعكس كما رأينا في المحور الأول.

فمن غير المستساغ عمليا ودستوريا وإداريا إسناد التفتيش الإداري للمسؤول القضائي فرغم أن مهمة الإشراف موكولة إليه بمقتضى المادة 7 من مشروع القانون أعلاه، فهذا لايشفع له في مباشرة عملية التفتيش الإداري إلا إذا كان يجمع بين وضعيتين وصفتين إدارية وقضائية وهذا لا يستقيم بتاتا طبقا للمقتضيات الدستورية والقانونية الصريحة في هذا الشأن ،وإن كان المسؤول القضائي يشرف على السير العادي للمحاكم فإن ذلك يبقى في إطار الحفاظ على استمرارية المرفق العام وضمان حسن سير الجلسات والخدمات وإخبار الجهات (إدارية كانت أو قضائية ) والتي لها حق التأديب والمساءلة بكل الاخلالات التي يرصدها ،غير أن هذا الاتجاه لا تسير وفقه المادة 102 من مشروع القانون والتي خصت الرؤساء الأولون لمحاكم ثاني درجة والوكلاء العامون لديها للقيام بمهام التفتيش الإداري للمحاكم التابعة لدائرة نفوذهم، مما يفهم منه أن التفتيش هنا موجه إلى رئيس المحكمة ووكيل الملك لديها بصفتهما مشرفين على المحكمة ،ولو تم التسليم بهذا الأمر فإن التحليل الدقيق لمقتضيات المادة 102 يخلص إلى غير ذلك على اعتبار أن التقارير التي يعدها الرؤساء الأولون والوكلاء العامون للملك ترفع إلى الوزير المكلف بالعدل (بأي صفة؟ !!!) وتوجه فقط نسخة منها إلى الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ولرئيس النيابة العامة قصد الإخبار ،فالمنطق السليم أنه إذا كان الرؤساء الأولون والوكلاء العامون يمارسون عملية التفتيش الإداري على المسؤولين القضائيين التابعين لدائرة نفوذهم فإن التقارير التي يعدونها يجب أن ترفع إلى الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ولرئيس النيابة العامة وتوجه نسخة قصد الإخبار إلى وزير العدل وليس العكس كما ورد في المادة المذكورة. الأمر الذي يتضح معه أن التفتيش الإداري الذي سيقوم به الرئيس الأول والوكيل العام للملك موجه لمصالح كتابة الضبط ما دامت التقارير ترفع إلى وزير العدل مما يطرح التساؤل حول الوضعية التي تحكم علاقة وزير العدل بالرئيس الأول والوكيل العام للملك والطرفين يختلفان في مركزهما القانوني و ما العبرة من استثناء رئيس المحكمة ووكيل الملك من القيام بمهام التفتيش الإداري.

أكيد أن المادة 102 لا زالت تحتاج إلى تنقيح فهي غير واضحة في مقتضياتها وتحتاج إلى توصيف مهام أجهزة الرقابة لدى السلطتين القضائية والتنفيذية فإما أن يتم الاعتراف بسلطة الكاتب العام وحده في القيام بمهام التفتيش الإداري أو للرؤساء الأولون والوكلاء العامون للملك في إطار إشرافهم على عمل رئيس المحكمة ووكيل الملك لديها وكل في حدود اختصاصاته يوجه تقاريره إلى الجهة التي يتبع لها وتتبادل الجهتين في إطار التنسيق نسخ من التقارير المذكورة.

أما في ما يخص إسناد التفتيش الإداري للكاتب العام فيجد سنده في الفقرة 4 من المادة 23 والتي تنص على أنه ” يخضع الكاتب العام للمحكمة إداريا لسلطة ومراقبة الوزير المكلف بالعدل، ويمارس مهامه تحت إشراف المسؤولين القضائيين بالمحكمة… ” وعليه تكون صفة الكاتب العام سليمة في قيامه بعملية التفتيش الإداري ورفع بالتالي تقاريره إلى وزير العدل باعتباره جهة إدارية.

ويبدو أن إصرار المشرع على إسناد مهام التفتيش الإداري للمسؤولين القضائيين (الرؤساء الأولون لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامون لديها) طبقا للمادة 102 بمعية الكاتب العام الغاية منه تقزيم دور هذا الوافد الجديد لحداثة التجربة بالمحاكم المغربية وربما في الأفق البعيد نجد إطلاق المشرع يد وزارة العدل في القيام بمهام التدبير والتفتيش الإداريين في تناغم وانسجام مع السلطة القضائية وليس في وضعية تدخل أو تداخل بينهما بما يحقق في آخر المطاف نجاعة قضائية وإدارية.

* باحث في الحكامة القانونية والقضائية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *