وجهة نظر

عودة البغدادي.. أفول” الخلافة “وتوحش التنظيم

قطع ابوبكر البغدادي الشك باليقين .و فند بنفسه شائعات مقتله.ف18 دقيقة من ظهوره المصور كانت كفيلة بان تعيد عقارب الساعة الى الوراء ،لتنطلق المخاوف والتوجسات مرة اخرى بشأن انبعاث الحياة من جديد في عروق التنظيم الإرهابي داعش الذي اخاف و روع العالم ، ولينكب خبراء الصورة وتحليل الخطاب في العالم الغربي والعربي على فك شفرات التوجه الجديد لزعيمه الإرهابي ومعرفة الأماكن التي قد يكون صور فيها شريطه، وقراءة ما توحي به طريقة جلوسه ولباسه وحركاته و كذا المشاعر المنبعثة من عينيه او المرتسمة على وجهه، و حتى ما قد يفوح من لون لحيته الرمادية الكثة المخضبة بالحناء من رائحة تهديدات جديدة للأمن العالمي .

رسائل ودلالات ومخاطر مختلفة وردت في الإشارات الكثيرة في فيديو الإرهابي الأول في العالم يمكن أن نقصرها في مايلي.

اولا : أن تنظيمه الإرهابي لا زال حيا يرزق مادام القائد حيا . فالحية لاتموت الا بدق رأسها .ولذلك فكل ماروج حول مقتله مجرد حرب شائعات لفت عضد أذنابه .وتبديدا لأي شكوك حول نجاته تعمد الفيديو الإشارة للغزوة الإرهابية الأخيرة بسيريلانكا.فإفلات البغدادي من غارات التحالف ،ولو أنه ظهر منهكا منزوع العنفوان ” كاف ” ليمد الأتباع بطاقة جديدة على الاستمرار ، ويثبث ويقوي” إيمانهم” بالمشروع الإرهابي ومدى قابليته للانتصار والتحقق من جديد بعد صدمة” انهيار الخلافة “وبعدما رزئوا في دولتهم المزعومة المشيدة بالقتل وسفك الدماء و الترويع وجهاد النكاح .

ثانيا: إن البغدادي المقتصد في ظهوره، والذي لايهوى الكاميرا بسبب المبالغة في الاحتراس او لتبنيه لنهج دعائي يفضل معه ان يظل شبحا مرهوبا على ان يبتذل اعلاميا ،لا يخرق هذه القاعدة إلا في اللحظات المفصلية من حياة التنظيم. اذ يعد هذا ثاني بروز مصور له بعد خطبته الشهيرة بالموصل صيف 2014 التي اعلن فيها قيام ما اسماه بالخلافةالإسلامية .ولذلك يعتبر هذا الخروج بعد خمس سنوات إيذانا بدخول التنظيم لمرحلة أخرى جديدة مختلفة عما قبلها تتخلى فيها داعش عن حلم بناء الدولة بمقوماتها الثلاثة من سلطة على شكل “خلافة” وشعب واقليم .وهي الإمارة التي قد تمكنت بالفعل من تشييدها على أراضي واسعة من العراق وسوريا تعادل مساحة بريطانيا كاملة ،لتتحول الآن وتصبح مجرد فكرة او أيديولوجية او عقيدة جهادية عابرة للقوميات. ولذلك عمد الى تصفح ملفات عدة دول يعتبرها هو مجرد ولايات له كولاية تركيا …الخ . وهو مايعني التعويل مستقبلا على البؤر السرطانية الثانوية للتنظيم المنتشرة في اوصال المعمور بعدما تم استئصال الورم الأصلي بخسارة “موقعة” الباغوز التي كانت آخر جيوبه المتبقية ،وهي المعركة التي ستؤرخ للنهاية الرسمية للتنظيم كمشروع لإحياء الخلافة حاول إرساءه البغدادي دون موافقة من المسلمين.

إن هذا التحول هو ما يفسر لماذاظهر إذن بدون خاتم للخلافة باصبعه، مما يعني انه استوعب تبخر دولته ومقتل الكثير من قياداتها من الصف الأول، وصار اكثر من ذلك يقبل بالهزيمة ويقرها ويريد ان يتصرف على هذا الأساس .

ثالثا. هذا الإقرار بالهزيمة المدوية للتنظيم في الميدان و على الارض .والتي يقول الشريط أنه قد تم الثأر لها من خلال 92 عملية إرهابية و خصوصا بتفجيرات سيريلانكا الدامية المرعبة تشير الى ان التنظيم المتطرف يعتزم ان ينقل المعركة إلى كل الأرض ،وأنه سيضرب حيث لايتوقع أحد، وأنه سيستأسد على الدول ذات الهشاشة الأمنية خاصة وأن الدول المنخرطة في مكافحة الإرهاب قد راكمت الخبرة التي تمكنها من تفادي غزواته وشل تخطيطاته . ولذلك يوسع البغدادي من محيط المواجهة لمزيد من خلط الاوراق وارباك” الاعداء” ليكون له هامش للارهاب واستنفار اكثر للخلايا النائمة.

ربعا :انعطافه نحو مزاحمة تنظيم القاعدة على زعامة ما يسمى الجهاد الاممي او بالاحرى الإرهاب المعولم .وهذا ماجعل البغدادي يحاكي في الفيديو” الدعائي ” للنهج المستقبلى للتنظيم، جلسة أسامة بن لادن الشهيرة ،ويمسك على شاكلته الرشاش بيده .صحيح ان 50جنسية حاربت بجانب البغدادي بعدما تمكن بآلته الإعلامية الرهيبة وطرقه السيكولوجية البالغة الفعالية من استقطاب واستمالة معتوهي ومتشددي العالم . و صحيح ايضا انه نفذ عمليات خارج ما أطلق عليه زورا وبهتانا ارض الخلافة وارض تطبيق الشريعة ، ولكن مع ذلك ظل له تركيز محلي بخلاف القاعدة التي بعد اندحارها بأفغانستان انصرفت في ما اسمته الجهاد العابر للاوطان. وكانما هي نفس الطريق تسلكها تباعا كل منظمات ما يشار اليه بالارهاب السني .وبالتالي تكون داعش الان قد اعلنت انها دخلت لمرحلة الاغتراب عن ارض الخلافة اي لمرحلة التوحش والعمل السري وهو مايطرح اعباء ثقيلة على الاجهزة الامنية بالعالم .

خامسا: اعتزام التنظيم الاعتماد مستقبلا على الذئاب المنفردة لتنفيذ مخططاته الترويعية و التي تتمثل خصوصا في المقاتلين العائدين و المتعاطفين المحتملين .هذه العناصر لا تحتاج الى إشرافه بقدر ماتكفيها العقيدة الارهابية ولذلك هدف البغدادي بهذا الخروج ان يثبث لها ان الدولة اذا ماتت فالزعيم لازال حيا والفكرة المتطرفة حية معه كذلك . وبالتالي يثبث شرعية له صارت مثار منازعة من قبل البعض من الذين يدعون الى خلع بيعته بعد النكبة التي حلت بخلافة الوهم .إنه بكل هذا يوحد هؤلاء الأتياع مرة اخرى تحت لوائه دون ان ينسى ان يزودهم وهو المنتحل لاسم اول خلفية في الاسلام بشعارات جديدة تناسب المرحلة الصعبة القادمة .اذ لم يعد تحقيق النصر هو الهدف وهو الأهم بل المطلوب في” الأزمات ” “الجهاد” و”الجهاد “فقط . اي شن حرب لا غاية لها، وهو مايعني بكل بساطة الارهاب والارهاب فقط ويدل ايضا على منتهى اليأس والاحباط الذي يجثم على نفسية التنظيم الداعشي . حتى الارض لم تعد ضرورية للدولة. فالتنظيم حسب البغدادي بويع بخراسان- التي لانعرف اي دولة يقصد بها ونعرف المغزى من توظيف هذا المسمى الذي عفاعنه الزمن- و له “فوق هذا “مجندون افتراضيون تضمهم جماعات قد بايعت ببوركينافسو ومالي ….كما ان العدو لم يعد حسبه هو ذاك القريب المرتد الذي كان يمثله الشيعة. بل أصبح عدوا اجنبيا وبعيدا هو مادعاه بالتحالف الصليبي. وهذا امرمفهوم لا علاقة له بمراجعة نقدية للافكار بقدر ماله علاقة بتكيف حربائي مع الوضع الجديد .فحين كان التنظيم متمكنا من منطقة جغرافية محددة ،كان الصراع محتدما مع الجيران الشيعة ،ولما تعالى التنظيم عن الجغرافيا مضطرا بسبب الهزيمة هاهو يختار عدوا ممتدا منتشرا .عدوا يعتقد انه سيحقق له تعاطف الكثير من السذج والمتشددين مما سسيسهل عليه وفق منظوره الحشد والاستقطاب بفعالية من جديد.

سادسا: هذه الاستراتيجية الجديدة تجعل هذا التنظيم مثل عقاب قد تدمر عشه وراح يحلق الآن في السماء دون مستقر له على الأرض باحثا بعينيه عن مكان يناسبه لبناء وكر جديد .و لذلك فهذا التنظيم الذي تتقاسم اسباب وجوده عوامل ذاتية واجنبية غربية ينتهز دائمآ الفوضى واحيانا الثورة لاجهاض احلام التغيير لدى الشعوب العربية بالتحديد لوأدها بكل الهمجية والبربرية اللازمتين .هناك الان فرائس كثيرة محتملة يسيل لها لعابه لاعادة نفس السيناريو السوري العراقي لاقدر الله … السودان الجزائر ليبيا مالي وهناك مناطق في افريقيا وآسيا تبدو له قد اينعت وحان له قطافها. وهذا مايؤكد ان داعش صنيعة اجنبية بالاساس وجسم غريب قد خلقت في دهاليز المخابرات لمعاكسة اية تباشير للتنوير والديمقراطية بالعالم العربي. انها الفزاعة التي تثني الشعوب عن المطالبة بحقوقها والسرطان الذي يتحين فرص الانتقال الديمقراطي السلمي لزرع الفوضى والدمار وقتل الأمل في النفوس.

…ولكن ومع ذلك فشتان بين بغدادي 2014 الواثق من نفسه الذي اعتلى المنبر بجامع النوري ليخطب في المئات ويفاجئ العالم باعلان نفسه خليفة وبين هذا الكهل الطريد الشريد الذي ظهر في الفيديو يحاول من داخل نفق من الأنفاق بخطاب مهزوز مرتبك تفوح منه رائحة الانهيار والهزيمة النفسية جبر خاطر من غرر بهم ساعيا لابقاء حالة التوجس قائمة من تنظيمه الذي تلقى بالفعل ضربات قاصمة لا نظن انه ستكون له أوبة بعدها على الأقل بالشكل الذي كانه كدولة مارقة مفارقة للقيم والمثل الانسانية التي تحض عليها الاديان السماوية .الا اذا كانت حسابات ما في جهات ما من العالم ستعمل على بعثه باخراج جديد وإهاب جديد ليستمر كعادته في تشويه صورة الإسلام والمسلمين. و مع ذلك لو تحقق هذا فان حقيقة واحدة ستظل باقية من هذه الطلة الاخيرة للمطلوب رقم 1 في العالم وهي انه بهذا الفيديو قد اعلن نهائيا موت وهم الخلافة ودخول التنظيم احد المسارين : مسار التوحش او مسار الاندثار والانهيار الكامل .

* استاذ بكلية الطب بالرباط دكتور في العلوم السياسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *