وجهة نظر

كليات رمضانية.. كلية التحرر والتحرير (3) من محطات التحرر الرمضانية

• إمكان الحياة مع الحرمان..
• حرية الإرادة
• تحرير الرقاب

محطة إمكان الحياة مع الحرمان..

ومن محطات التحرر والتحرير في رمضان، أنه يعلمك إمكان الحياة مع الحرمان..

وهنا يلوح في الأفق حديث اللقيمات أو الأكلات [1]، الذي يأتي رمضان ليجسد حقيقته، ويخرجه من عالم الخيال والنظرية إلى حيز الحقيقة والتطبيق، فيقضي المسلم يومه مزاولا لنشاطه وعمله بلقيمات تناولها في إفطاره وسحوره…

وهنا أنقل كلاما نفيسا كاملا للشيخ محمد الغزالي رحمه الله يتناول محطة إمكان الحياة مع الحرمان وما تولده عند الإنسان من عزة وكرامة، يقول رحمه الله: كنت أرمق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أهل بيته في الصباح : أثَم ما يفطر به؟ فيقال : لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأنه لم يحدث..

ويذهب فيلقى الوفد ببشاشة ويبت في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمة واحدة ! وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)

قلت: لو جاءني إفطاري دون شاي لسخت!! ولرفضت إمضاء ورقة على مكتبي، بَلْهَ كتابة مقال!!.

إنها لعظمة نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرء البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر، والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت!.

وأعتقد أن أسباب غلب العرب في الفتوح الأولى قلة الشهوات التي يخضعون لها، أو قلة العادات التي تعجز عن العمل إن لم تتوفر. يضع الواحد منهم تمرات في جيبه وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم فإن العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلا توقفوا …

وقد اعتمد غاندي على هذا السلاح عندما حارب “بريطانيا” العظمى.. كان الإنتاج البريطاني يعتمد على الاستهلاك الهندي.. وقرر غاندي أن ينتصر بتدريب قومه على الاستغناء نلبس الخيش ولا نلبس منسوجات “مانشيستر”، نأكل الطعام بدون الملح ما دامت الدولة تحتكره، نركب أرجلنا ولا نركب سياراتهم

وقاد حركة المقاطعة رجل نصف عار جائع، يتنقل بين المدن والقرى مكتفيًا بكوب من اللبن.

واستجابت الجماهير الكثيفة للرجل الزاهد، وشرعت تسير وراءه فإذا الإنتاج الإنكليزي يتوقف، والمصانع تتعطل، وألوف مؤلفة من العمال الإنجليز يشكون البطالة. واضطرت الحكومة إلى أن تطلب من “غاندي” المجيء إلى لندن كي يتفاوض معها، أو يملي شروطه عليها!!.
إن الإنسان الذي يملك شهواته قوة خطيرة، والشعب الذي يملك شهواته قوة أخطر، فهل نعقل؟؟..

أحفظ للشيخ الكبير “محمد الخضر حسين” شيخ الأزهر الأسبق كلمة عظيمة:
“لست أنا الذي يهدَّد؛ إن كوبًا من اللبن يكفيني أربعًا وعشرين ساعة”!.
ومن قبله قال الشيخ عبد المجيد سليم وقد حذروه من غضب جهات عالية:
“أيمنعني ذاك من التردد بين بيتي والمسجد؟ قالوا: لا.. قال: لا خطر إذن؛ ليس هناك ما يُخاف”..

من أركان العظمة أن يجعل الرجل مآربه من الدنيا في أضيق نطاق مستطاع … إنه يعيي عدوه بذلك الاستعفاف أو الاستغناء.
وذاك نهج الشرف الذي خطه علي بن أبي طالب عندما قال: “استغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره”.. وما يستقيم على هذا النهج إلا امرؤ يحسن الصيام..

أعجبتني هذه الوصية لأبي عثمان النوري لابنه، وأثبتها الجاحظ، وليس لي في كتابتها إلا فضل النقل..

“يا بني: كلْ مما يليك، واعلم أنه إذا كان في الطعام لقمة كريمة أو شيء مستطرف فإنما ذلك للشيخ المعظَّم أو الصبي المدلَّل، ولست واحدًا منهما. يا بني عوِّد نفسك مجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش كالسباع، ولا تقضم كالبغال، ولا تلقم لقم الجمال، فإن الله جعلك إنسانًا فلا تجعل نفسك بهيمة، واعلم أن الشبع داعية البشم، والبشم داعية السقم، والسقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، لأنه قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألأم من قاتل غيره. يا بني: والله ما أدى حق الركوع والسجود ممتلئ قط! ولا خضع لله ذو بطنة، والصوم مصحة والوجبات عيش الصالحين. يا بني: قد بلغت تسعين عامًا ما نقص لي سن، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت ذنين أنف، ولا سيلان عين، ولا سلس بول، وما لذلك علة إلا التخفف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فتلك سبيل الموت، ولا أبعد الله غيرك”..

هذه وصية رجل لا يعرف عبادة الجسد التي تهاوى فيها أبناء هذا العصر، والتي جاء فيها قوله تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، وقوله(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ).

وتجتاح الناس بين الحين والحين أزمات حادة تقشعر منها البلاد، ويجف الزرع والضرع، ما عساهم يفعلون؟ إنهم يصبرون مرغمين أو يصومون كارهين، وملء أفئدتهم السخط والضيق.. وشريعة الصوم شيء فوق هذا، إنها حرمان الواجد، ابتغاء ما عند الله. إنها تحمل للمرء منه مندوحة لو شاء ولكنه يخرس صياح بطنه، ويرجئ إجابة رغبته، مدخرًا صبره عند ربه، كيما يلقاه راحة ورضا في يوم عصيب … (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ). [2]

محطة (حرية الإرادة)

ومن محطات التحرر في هذا الشهر الكريم: حرية الإرادة

لقد وضع الأستاذ الألماني جيهاردت كتابا في تقوية الإرادة، جعل أساسه الصوم، وذهب فيه إلى أنه هو الوسيلة الفعالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد؛ فيعيش الإنسان مالكا زمام نفسه لا أسير ميوله المادية.

إن وظيفة الإرادة تكبح جماح الغريزة، وتخفف غلواء الحيوان الذي يعيش في عروق الإنسان، فيثير شهواته وعواطفه، كما الضابط يقبض المعسكر فيمنع توتره وفضوله.

وممارسة الصوم في شهر رمضان، لإبراز استقلال الإرادة، تمرن الصائم على اعتياد التحرر والانعتاق، من أحابيل الغريزة ومكايدها، وترهف عزيمته وتشحذ مواهبه، وتستخرج ركائزه الدفينة؛ ليودعها مصرف روحانيته ليجدد عنها – عند الشدائد – مدد الثبات والعزم والخشونة والجلد، حتى ينقلب الصائم بطلا تنفجر أعصابه إيمانا ومضاء؛ فلا يذل ولا يخشع ولا يستكين، وإنما يبقى كالجندي المعبأ، يتحفز أبدا للدفاع والوثوب. [3]

محطة (تحرير الرقاب)

ومن محطات التحرر والتحرير في رمضان أن ربطت الكفارة فيه بتحرير الرقاب، وفي ذلك إشارة إلى أنه موسم تحرير الرقيق والمستعبدين، إذ ينتظره أولئك على أحر من الجمر ليجدوا حريتهم وأمنهم، فتكتمل إنسانيتهم بعد أن مرغتها يد الرق في أوحال الاستعباد.

القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي ورد فيه تعبير الـ “تحرير” صراحة وبكل وضوح 5 مرات في 3 آيات ، وكما يقول الإمام النسفى فإن:”كل تكرير ورد فى القرآن فالمطلوب منه تمكين المكرر فى النفوس وتقريره”

وكما يتضمن آية أخرى خالدة تحض على : “فك رقبة” سورة البلد الآية:13، كما تحدثت آيتان أخريان عن دفع الزكاة والصدقات لتحرير الرقاب . وهكذا فإن الذكر الحكيم أمر بالعتق والتحرير فى 8 مواضع ، أى 8 مرات . ولم يعهد الناس طوال عمر البشرية كلاماً صريحاً قاطعاً وواضحاً عن التحرير وفك الرقاب المعذبة في الأرض قبل نزول القرآن على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك ورد لفظ “العتق” صراحة – والأمر به – في عشرات من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة . [4]

فإذا كان رمضان موسم تحرير العبيد فمن باب أولى أن يكون موسما لتحرير الأحرار الذين يظنون أنهم أحرار من قيد الشهوة وقيد الخوف وقيد الاستبداد.

ولا ننس معنى آخر للتحرير والعتق، وهو أنه كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن لله عتقاء في كل ليلة من ليالي رمضان، [5] فهو تحرير رباني أخروي عليه علقت آمال كل البشر يقظهم وغافلهم، يتمنون أن تكون أسماؤهم في لوائح ذلك التحرير، فيحققون المنى والمرتجى (فقد فاز).[6]

فإذا كان رمضان منصة تحرير للبشر ذلك التحرير الحاسم العظيم، فلا شك ولا ريب أنه جو دافع وجاذب للتحرر الدنيوي المؤهل للتحرير الأخروي.

يتبع..

[1] وهو حديث ” ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، وثلث لنَفَسه ” سبق تخريجه
[2] من ثمرات الصيام 16أكتوبر, 2004 في العدد 221 / فقه العبادات الوسوم : الصيام / فضيلة الشيخ محمد الغزالي / من ثمرات الصيام الكاتب : المحجة
[3] الصيام وتربية المسلم / صلاح أحمد الطنوبي : مقالات الألوكة https://www.alukah.net/spotlight/0/1097/
[4] الإسلام محرر العبيد حمدي شفيق (ص:137)
[5] إشارة لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين، ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة “رواه الترمذي (3/57/682)
[6] إشارة إلى قوله تعالى من سورة آل عمران { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)}

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *