وجهة نظر

لماذا “العلمانيون” منبوذون في المجتمع المغربي؟

“مسألة العلمانية في العالم العربي مسالة مزيفة ، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات .. إنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي ، و تعويضه بشعاري الديمقراطية و العقلانية”: منظر العقلانية العربية محمد عابد الجابري.

– فضلنا أن نستضيء بآراء المفكر المغربي محمد عابد الجابري في هذه المرحلة التي تصادف الذكرى التاسعة لوفاته ، و نحن نستجلي بعض قضايانا الراهنة و الملحة ، وقد سبق أن عبرنا عن وجهة نظرنا إزاء مفهوم العلمانية في العالم العربي في أكثر من مناسبة من باب الغيرة على هذا المعطى الإنساني النبيل و المنجز البشري الراقي ، و نجد أنفسنا نعيد نفس التصور عسى أن يلقى تفاعلا جادا و مسؤولا ! و لئن كانت قناعتنا باستحالة نجاح أي تجربة سياسية علمانية بحصر المعنى في الدول العربية – الإسلامية لعوامل سوسيو- ثقافية مخصوصة ، فإننا نميز بين المنجز العلماني الكوني باعتباره اجتهادا حضاريا بشريا بالغ الأهمية ، يجسد منتهى ما وصلت إليه الثقافات الإنسانية السامية من مأسسة المجتمعات و عقلنة الفعل السياسي العام ، و بلورة أنساق مجتمعية متشبعة بالقيم الكونية الرفيعة الداعية إلى العدل و المساواة و التسامح و قبول الآخر ، في ظل نظام سياسي ديمقراطي يفسح المجال للتعددية السياسية و المنافسة الشريفة على السلطة بين الفاعلين الحقيقيين ، و الحاملة لرؤى و برامج مجتمعية واقعية .. و بين ” العلمانية ” العربية الاستئصالية العرقية ، الهادفة إلى فرض نموذج حياة نوعي مع إقصاء موغل في التطرف لاختيارات شعبية أخرى ، منتشية باستهداف المشترك الديني ، و مطمئنة للمساندة المعنوية و اللوجستيكية من قبل مؤسسات و جمعيات ” حقوقية ” دولية .

– و الواقع أن عددا كبيرا من رجال الإعلام و السياسة و المثقفين المغاربة ، مع بعض الاستثناءات النيرة ، الذين يرفعون يافطات الليبرالية و العلمانية و الحداثة .. هم أبعد الناس عن روح العصر ، و أدبيات التنظير السياسي العالمي القائم على أسس التعايش السلمي و بدهية قاعدة تدبير الاختلاف بين كل ألوان طيف المجتمع ، لا بل إنهم خارج سياق ما بعد حراك الربيع العربي الموؤود ، و غير معنيين بالتحولات السياسية و العسكرية و الاقتصادية المفصلية إقليميا و دوليا ، إنهم يعرضون يوما بعد يوم ” استراتيجيتهم ” العميقة المتمثلة في استهداف كل ما يمت بصلة بالعروبة و الإسلام ، أي ما يشكل لحمة و سدى المجتمع المغربي العريق ، المسلح بقيم التسامح و الانفتاح و التعايش بين كل أصنافه ، الأمازيغ و العرب و المنتمين للديانات الأخرى و غير المتدينين ، فأين المشكلة ؟ لماذا يتنصل أدعياء العلمانية عندنا من الدور الموكول لهم : تثقيف الرأي العام و نشر القيم البشرية الخالدة و استحضار جوهر فلسفة الأنوار القائمة على العقلانية .. و يحصرون ” وظيفتهم ” في معاداة المشترك الديني للمجتمع ؟ و التسابق بحماس استثنائي إلى تشويه كل التمظهرات الدينية للشعب المغربي ، دون أن نعني بذلك إطلاقا أننا نرفض التحليل الملموس للوقائع المجتمعية الملموسة ، و منها المسلكيات الدينية غير السوية و ما أكثرها ، لكن هكذا انتقاد يفترض أن يصدر عن نزعة تطمح إلى المعالجة العلمية المحايدة للتجليات الاجتماعية ، و ليس بهدف التشفي و اقتناص الفرص لقصف معتقدات الأمة و تقويض مرتكزاتها الحيوية .

– و كمثال يجسد بجلاء هذه الحقيقة الاجتماعية المؤلمة ما عاشته و مازالت ، الساحة الإعلامية المغربية من ثرثرة مملة حول مسألة القيم و ” الحريات الفردية ” المفترى عليها ، و نحن إذ ندين و بشدة المساس بحرية الفكر و التعبير ، و نندد بقوة بالاعتداء على الحريات الفردية بمعناها الراجح ، فإننا نعبر عن خيبة أملنا حول ما يصدر عن بعض ممثلي الصف ” العلماني “من انتهاج سلوك غير عقلاني لا يتفهم السياق الثقافي والاجتماعي المخصوص و الإيقاع السياسي المغربي النوعي ، خاصة و أن هكذا مواضيع تحظى بمناقشة حادة حتى داخل غالبية المجتمعات الغربية المتقدمة جدا في مجال ثقافة حقوق الإنسان ، و الحقيقة أن أدعياء العلمانية بالمغرب ضيعوا فرصا ذهبية للتصالح مع الشعب المغربي الذي ينظر إليهم باعتبارهم أطرافا تستهدف قيم المجتمع و ثوابت الأمة ، و يستصغرون الدستور الذي صوت عليه الشعب بأغلبية مطلقة ، و غني عن البيان التذكير للمرة الألف أن الدستور المغربي و هو أسمى قانون للبلد ، يقر بأولوية احترام المواثيق و القوانين الدولية الداعمة للعدالة و المساواة و حرية التعبير و التفكير و المعتقد .. على أن يندرج كل ذلك في إطار أحكام الدستور و ثوابت المملكة و قوانينها .

– فمتى سيدرك ممثلو ” العلمانية ” المغربية وضعهم الاعتباري الدراماتيكي ، المتمثل في السباحة ضد قيم المجتمع و الثوابت الثقافية و الاجتماعية و الدينية للأمة ؟ متى يعون أن انهزامهم في الاستحقاقات السياسية ليس عيبا ، بل العيب هو التمادي في انتهاج طرق تنزع نحو مسار الاستئصال و الهيمنة و رفض الآخر ؟ متى يفهمون أن مكانة خصمهم السياسي اللدود الإسلام الديمقراطي ليس في قوته الذاتية فقط بل في ضعفهم و ابتعادهم عن نبض المجتمع و ثقافته و آلام المواطنين و أحلامهم !؟ متى يقتنعون بأنهم ليسوا وحدهم في المجال الوطني العام ، و أنهم محكومون بالتعايش و التعاون مع أطراف سياسية أخرى من أجل مصلحة البلد و تجنيبه المخاطر المحدقة به ؟ و أخيرا و ليس آخرا متى يستشعرون أن جوهر الصراع في راهن المغرب ليس بن العلمانيين و التقليديين ، و ليس بين الحداثيين و المحافظين .. بل إن الصراع منحصر بين المحظوظين و المهمشين ، بين المدافعين عن الديمقراطية و الإصلاح و بين الاستغلاليين و رموز الفساد ؟

* كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *