منتدى العمق

الحراسة في الامتحان أو أقدام حافية على مسامير صدئة

“أحسن مهنة هي التعليم: كثير من العطل، قليل من العمل، ضمان لأجرة شهرية لا تتأثر بأسعار النفط والجفاف والجراد”

هذه باختصار نظرة الكثيرين إلى هذه المهنة. أما أوجاعها فلا يتأثر بها إلا المشتغلون به، خاصة من يشتغل منهم بضميره، فيقضي يومه كله عملا وتفكيرا في الحال والمآل والتلاميذ والمدرسة…

هذا الكلام راودني هذا اليوم بمناسبة امتحاناتالبكالوريا… وجدتني أفكر أيضا في الامتحان والتلاميذ، غيبا أدعو لهم بالتوفيق، وحضورا أسأل الله أن أكون وفقت في منحهم ما يكفي من وقت وجهد ليستوعبوا دروسها، وخوفا أغالب شعوري لو تم اختبارهم في جزئية لم نحط بها، أو أهملناها، أو أخطأنا فيها التقدير… هَمٌّتكظمه ويطفو.

أما الحراسة فكلام آخر. يكفي أن ينظر إليك المتعلمون كشرطي لا كأستاذ، يكفي أن تدخل إلى القاعة وتسمع “أوووف”، يكفي أن تتحمل الإجراءات المصاحبة للامتحان،يكفي أن ترى المؤسسة أشبه بثكنة في حالة طوارئ، يكفي أن تنظر في عيون التلاميذ؛خوف وحر وهم…

إن أكثرهم لم يراجع دروسه كثيرا أو قليلا، أشغله الفيسبوكوالواتساب ومرفقات رمضان، وسوفه الوقت.. بقي شهر، مازال أسبوعان، بقي أسبوع، بقي يومان.. لا يمكن أن أراجع هذا الكم من الدروس، وبعض المواد لا تفهم، مستحيل أن أفهمها، وهل فهمتها في الابتدائي والإعدادي؟ بقي أن أجرب حظي “تقميرا” أو غشا…(وأصلا ها هو فلان ليس متعلما ومع ذلك يرأس جماعة، بل إن فلان الأمي يتثاءب في البرلمان ويظهر في التلفاز…) وجوه خائفة أمامها وجهان عبوسان صارمان لأستاذين في حالة إرهاق وملل..وبين الحين والآخر يظهر المراقبون ورئيس المركز والملاحظ… جو القاعة رهيب.. لا أحد يبتسم.

ثلاث ساعات من الحراسة، لا شيء لتفعله.. فقط تدور بعينيك هنا وهناك، تسمرهما في ذاك إلى أن تنتبه وتحولهما إلى تلك ثم إلى ركن في القاعة.. تذكرهم بالساعة في كل حين وكأنك من سينفخ في الصور ليبعث من في القبور… تعيش حيرة.. كلام كثير عن الغش، ملصقات في الجدرانتمنع وتحذر وتنص على العقوبات.. وأنت تعلم أن الآخرين يغشون، وبعضهم يساعد المتعلمين، وتصلك أخبار بأن الهواتف لم تسحب من المتعلمين في مؤسسة هناك، وتشاهد فيديوهات يشكر فيها مرشحون أساتذة على المساعدة في “النقيل” ويلومون من حرمهم من حقهم في الغش أسوة بالآخرين… وأنت هنا لتحرس، لتراقب حفاظا على النزاهة وتكافؤ الفرص، حفاظا على شيء يكاد ينقرض في هذا الوطن، لم تَعتد أن تغشوأنت تلميذ وطالب، وضميرك لا يطاوعك في تحقيق النزاهة في الغش، والسماح لهؤلاء المساكين ليحصلوا على شهادة أنت تعرف أنها بداية المشاكل في حياتهم.

تتساءل ما المشكل إن لم يفقه شيئا في الرياضيات؟لن يستعمل النهايات والمتتاليات في حياته، فيما يفيده مفهوم الحداثة، ما المشكل إن لم يعرف العروض، ماذا سيصنع بالفلسفة سيجن فقط، الدين في المسجد… ؟؟

تعود من خيالاتك لتنقل “بلونكو” من تلميذ إلى آخر. وما زالت الحيرة تفتك بك، ما فائدة وجودك هنا وما جدوى الامتحان والاجتهاد إذا كنت ستتركهم يغشون؟ وما ذنب هؤلاء لتمنعهم من الغش؟ وما فضل هؤلاء ليستفيدوا من الحراسة المخففة أو اللعب المفتوح؟ ثم ما ذنبك أنت لتوضع في هذه الورطة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *