وجهة نظر

منظومة إعلامية متحولة خارج النسق القيمي

“السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه” – ابن خلدون –
اذا استثنينا من الإعلام هذا الفتور العادم والتراجع القيمي الذي تحدر من فوضى التواصل وانفراط نظامية النشر وتدفق الاتصال، حيث تبرز أدوار تيارات الرأي والرأي المضاد في التأثير على الرأي العام عبر استخدام وسائل الاتصال، فإن صراعات مضمرة ومباشرة تتدافع بنهم فظيع وشراهة متسخة، لتظهر مدى انكشاف الجوانب المظلمة من الاستخدامات المفرطة القائمة بالاتصال بالشبكات الاجتماعية ومواقع الفيديو المشترك.

هناك اهتمام عشوائي من قبل محرري التدوين وما يطلق عليه صحافة المواطن، حيث تتكاثر التعليقات المنقولة والناقصة بشكل يضر بقيم الإخبار والشفافية، دون تقييد بمصداقية الخبر وصدقيته، مع انتفاء نظرية المصدر وجاهزيته على المجتمع والمواطنين.

جيش كبير من الغوغاء تخرق قاعدة الإعلام ورسالته، يمارس وظيفة حراسة البوابات بشكل مخيف. ثم يحيل تراشقاته بنوع من التعالي وتخصيب بوادر البروبجندا، في تحدي سافر لكل النظم المعرفية الإعلامية ووسائطها الحرة ذات الفعالية .

ويحيل هذا التوجه إلى الغموض والتشوه الذي لحق مفهوم التحولات السوسيوثقاقية والسوسيولوجية في إطار ما أصبح يعرف اليوم بتحديات الإعلام الإلكتروني والمحمول، وما يمكن أن ينتج عنه من ضرب لأخلاقيات المهنة وتداعيات التطور التكنولوجي.

الشيء الذي يطرح بالفعل جملة من الإشكاليات المتعلقة بتأثيرات الإعلام ووسائل الاتصال بالتكنولوجيا الحديثة، ما يستدعي أيضا طرح أسئلة التأثير الأكثر التصاقا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وهو ما يجعل الاقتراب من ضغوطات الإعلام السيكولوجية والذهنية أكبر ، بعد أن تغلغل الثلاثي المدمر ( التلفزيون والمحمول والكمبيوتر ) في صلب الحياة الخاصة للمواطنين، وانقيادهم المثير والمتواطئ لجاذبيتها وجنونها المحتوم! ؟

هناك أمر آخر قد يضيف لبعض الحقائق السابقة أسئلة مفارقة ترتبط بالسرعة التي شهدتها صناعة الإعلام ، والقابلة للتغيير والتشكل بوقع سريع ومتنامي. يتعلق الأمر بمنظومة سمات الإعلام الإلكتروني وتواتراته على مستوى إنتاج الخبر بقوالب صحفية وغير صحفية، مع العلم أنه أوسع دلالة من المفهوم الذي يرتبط بالصحافة الإلكترونية، حيث إن الصحافة جزء دائم ونافذ ( مهني ) في جسم صناعة الإعلام، فيترتب عن ذلك ضرورة التنبيه إلى كون الإعلام الإلكتروني الأكثر قدرة على اختراق الأفكار والعلامات في المجتمع. وهو أيضا الأكثر قربا من خلق جسور ممتدة باتجاه مستقبل الإعلام وتأثيراته الاستراتيجية في بنية التنمية والإنسان.

كما أننا بحاجة ماسة الآن إلى إعادة قراءة واقع تعاطينا مع مضامين الإعلام الإلكتروني واستيعاب تشكلات روافده الثقافية والسياسية الاستخباراتية. فالعلاقة التي تجمعنا بهذا الأخطبوط الجهنمي الداعر ليس فقط علاقة نكوص واستحواذ، في ظل تراكم محتوى هابط ومغيظ، بل إن واقع انتقالنا من فجوة انهيار القراءة التقليدية المفعمة بروح انتصار ثقافة الكتاب وتصفح الأوراق بروح أثيرة وواعية؛ إلى فتنة تنغيمنا بفراغات المعنى وحوارات إنترنيتية عقيمة، هو ما يضع مصيرنا الوجودي الهوياتي تحت رحمة ما أصبح يعرف بإعلام وادي السيليكون، الذي يسيطر على مجالات استهلاكاتنا الاتصالية بغير قليل من الاستغباء والانتهازية الفكرية. بنفس المعنى الذي دفع توماس ألفا إديسون الملقب بـ “ساحر ميلانو بارك” أن ينظر لنفسه كصبي وسط مجموعة من “الرفاق المخدرون بهذا النوع من الاستهلاك ” يقول إديسون متأثرا بهذا النوع القاتل من الاندماج: “لا توجد أية قواعد هنا، فنحن نريد أن نحقق نتائج”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *