وجهة نظر

مهنة التدريس من التدنيس إلى التقديس

يعتبر التعليم رسالة مقدسة بقدسية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فهو القائل :”العلماء ورثة الأنبياء”، وما اشد ما يتعرض له صاحب رسالة التعليم اليوم “المدرس” من السخرية والاستحقار والتنكيل على يد القاصي والداني في كل ربوع الوطن العربي وهي وضعية مشكلة – بلغة فقهاء التربية – متداخلة العناصر والأركان منها ما صنعه ونسجه المدرس لنفسه إما لأخطاء ارتكبها أو تقصير اعتراه أو جهل مارسه أو انحراف طاله ….، ومنها ما هو مفترى عليه لا يعدو أن يكون من باب تصيد الأخطاء ووضع الفخاخ وجهل بمكانة العلم والعلماء…، والمدرس في الحالتين معا في قفص الاتهام لذا وجب عليه أن ينتبه إلى رسالته النبيلة وينقيها من شوائب نزواته وعثراته والارتقاء بها من دركات السافلة إلى درجات عليا لا يرضى إلا بها .

فكيف يحدث هذا الانتقال ؟

إن حديثنا هنا ليس على تخصص المدرس وما يدرسه، ومدى تحكمه فيما يدرس أو امتلاكه للمقومات المعرفية والمنهجية للمادة المدرسة، فهذا شرط التدريس وهو أمر محسوم ، حسم فيه أولو العلم في سابق العهود ،يقول ابن خلدون ” وذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله ومالم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً ” (1) ،وإنما حديثنا هنا وبالدرجة الأولى ومن باب الاختصار والاقتصار ينصب حول ما يصلح لكل مدرس بغض النظر عن تخصصه . ومنطلق الكلام سيبدأ من حيث أخطا المدرس وقصر وكلف نفسه ما لا تطيق، فراح يضرب أخماسا في أسداس من خلال سلوكيات وأفعال لا تربوية ولا أخلاقية ولا أدبية لم تزد المتعلم شيئا سوى تنفيره من المدرس والمدرسة.

1- مهمة التدريس من التعالي والتكبر إلى التواضع والرقي :

من الأخطاء القاتلة التي قد يرتكبها المدرس اليوم (المدرس هنا ليس في عموميته) التكبر والتعالي على تلامذته إذ يصنع لنفسه هالة تحيط به لا يفارقها ولا يغادرها ولو فكر قليلا لوجدها هي سبب جل مشاكله مع تلامذته إن لم يكن كلها ، فالنفس الإنسانية عامة ترفض المتكبر فبالأحرى المتكبر العالم ،والمتعلم في هذا الوضع ينفر نفورا شديدا من هذا النوع من المدرسين ولا يتحمس للأخذ عنهم والاستماع إليهم والاستمتاع بما لديهم .

ومن أمثلة هذا التكبر نذكر طرق التعامل مع جماعة الفصل حيث يمارس المدرس أولى درجات وعلامات التكبر دون وعي منه أحيانا وذلك بعدم الاستئذان وقول السلام أثناء الدخول إلى الفصل ، والأمر على بساطته إلا انه يكون مدعاة للانتباه والتساؤل من مجموعة من المتعلمين ،وقولة السلام من عدمها لا يمكن أن تحدد قيمة المدرس في عين التلميذ أبدا ولا تشكل أي نقص وتحد له. يليها تكبر المعرفة المقترن بطرح المتعلمين لبعض الأسئلة التي أشكلت عليهم على المدرس الذي قد تعوزه الإجابة فيحول المتعلم إلى متهم لا سائل عن المعرفة، لتخرج إجابات على لسان المدرس دون تخطيط مسبق أو وعي بها ( أنت فقط الزم الصمت ،ابحث أنت ،الالتفاف والهروب إلى موضوع أخر ….وزد عليها من أشكال التكبر الكثير )

وحسبه في ذلك إمامه” مالك” الذي جاءه احد يسأله عن مسألة كلفه بها قومه وقد قطع مسافات طويلة دامت به ستة أشهر في الطريق إلى الإمام فأجابه “مالك “بكلمة مدوية يعلم بها كل مدرس معنى أن تكون مدرسا أو عالما وهي كلمة ” لا أحسن” فاستغرب السائل من تبات المسؤول كون الأمر لم ينقص من قدره شيئا مع انه عالم زمانه ،وقد صارت الكلمة منهجا لكل مدرس عاوده التكبر والعجب بما يعلم فقال” مالك” رحمه الله:

ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول «لا أدري»، فإنه عسى أن يُهيَّأ له خير.(2)

تليها النمطية في التفكير أو الطقوسية المتعارف عليها بين المدرس والمتعلم والمقصود بها تنميط التلميذ على شاكلة المدرس أي جعله يؤمن بأفكاره ويشبهه في كل شيء، أو لنقل يشبه المتعلم الذي يريده هذا المدرس حتى وان كان ذلك يخالف المنطق والفطرة السليمة ….،وزد على ذلك من طرق الحوار والتواصل القائمة على السب والشتم والتنقيص والتجريح إلى درجة يعف اللسان عن ذكر نماذج منها ، وإخراج المتعلمين من الفصل بسبب عدم الاحترام هذا. بل إن بعض المدرسين يقتاتون ويعيشون على بعض ممارسات التدريس الأرشيفية للمدرسين الخوارق في أزمان سابقة واستحضارهم كأبطال تاريخيين في التدريس وقد يكون الأمر مجرد مزايدة في الكلام أو مبالغة في القصة حتى تروق الجمهور وقد صدق الجمهور ذلك فراح يطبق كل ما يسمع من قبيل : أن هذا المدرس لا يتراجع عن كلمته وآخر لا يلقي بالا لأحد، والثالث لم يتزوج على مر الدهر تقديسا لرسالته وتعليمه الناس، ورابع لم يرى ضاحكا قط …وغيرها من القصص الملفقة التي إن صحت ليست النموذج المبتغى وان كانت كاذبة فقد ظللت وأوهمت الكثيرين أنهم مدرسين صادقين وهم ليسوا كذلك ولا اصدق على هذه القصص من كلام الله عزوجل إذ يقول في محكم تنزيله في سورة البقرة الآية 134″تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم “.

وفي المقابل فان التكبر لا يصل به المدرس إلى شيء يسره أو ينجيه كالتقدير والاحترام المرغوب وإنما هي لحظات مداهنة للنفس وإشعارها بالتفوق ما أن تنتهي هذه اللحظات حتى يرجع المدرس من حيث بدأ. والأصل أن يتمتع المدرس بالتواضع لان ذلك لا ينقص من كرامته قيد أنملة، بل يزيد من قدره ويكبر في أعين تلامذته ويكون باعثا لهم على إتباعه والاقتداء به. وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن التواضع الواجب توفره في العلماء والمعلمين كثيرة ومتعددة:

روى ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «تعلَّموا العلم، وعلِّموه للناس، وتعلَّموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلَّمتم منه، ولمن علَّمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء، فلا يقوم جهلكم بعلمكم»(3)

والتواضع لا يعني الوضاعة فالفرق واضح وشاسع فالأول منهج الأتقياء الأقوياء أما الثاني فيسلكه المستهترون الضعفاء كما أن التواضع لا يعني عدم الأخذ بزمام الأمور وإنما عين التواضع الحزم في تعليم التلاميذ ونقش بنود من ذهب للتعامل مع المدرس الجاد المبدع وعدم الإخلال بها أو تجاوزها .

2- مهمة التدريس من العنف والندية إلى الحلم والتواصل :

يعتبر التسلط والندية من بين السمات اللاتربوية في سلوك المدرس وهما سمتان لا تليقان به مادام قد اختار أن يكون رجلا في التربية والتعليم: يعلم الناس ويفقههم ويصلح ذات بينهم ويفهمهم و فوق ذلك يكون أهلا لكلام الرسول الكريم المعلم الأول للبشرية الذي يقول فيه عن المدرس (إنّ الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلُّون على معلم الناس الخير) (4)،فأي تشريف وأي تقدير لمكانة المدرس أكثر من تشريف خير الخلق وأصدقهم له ولرسالته. ومع هذا ترى المدرس ينحو سلوكات تخرجه من ملة العلم والعلماء والمدرسين . فتراه مرة يفرض سلطة ضابط بأعلى رتبة في الجيش على فصله فيريد التابع والمطيع والخنوع والمذلول ليبقى شامخا في فصله سواء أكان على حق أو على باطل ، وتراه مرة أخرى ندا لتلميذه وكأنهما قرينان اختلفا على شيء تافه همهما انتصار احدهما على الآخر، أو في محكمة أمام القاضي بين شد وجذب في بحر الجهالة لساعات يتبادلان أصابع الاتهام ويضيع من الوقت مايفيده في البناء بدل الهدم والهذر ، و غيرها من الصفات السلطوية التي لا تخفى على احد اليوم.

وإذا كان هذا التفكير هو الذي يسيطر على هذه الشريحة من المدرسين فأحب تبشيرهم بأنهم ليسوا كما يحلمون ولا يملكون من مقاليد السلطة- إذا كانت تجزيهم وتريحهم – إلا فصلا دراسيا به تلاميذ إما صغارا أو مراهقين وليس لهم إلا سلطة العلم والتواضع والمعرفة واخذ الناس باللين والجنوح إلى السلم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ودفع السيئة بالحسنة …ولا تتعدى أفكارهم حجرة الدرس وان فاتتها فالله من وراء القصد . إذن فلا طائل من وراء هذا السلوك فهو من باب المستحيلات ولا يستقيم مقامه هنا. وإلا فإذا أصبح المدرس بهذه الصفات فرضا فماذا تركنا للمجرم والشرطي والقاضي والجندي والرياضي والفارس والبطل …، فكل عنصر في المجتمع له مايميزه عن غيره وطلب الشيء في غير موضعه مضيعة للوقت وسيعاني كثيرا فيتحول حاله إلى حال الغراب الذي أراد أن يقلد طائرا آخر في مشيته فلا هو بمشية الطائر ولاهو بمشيته الأصل .

ومن بين درجات الندية انتقام المدرس من تلامذته بشتى أنواع الانتقام إما بسبه علنا وشتمه وتحقيره … وإما زجره بمنحه نقطة كارثية فيها كل معاني الحقد والضغينة وإما بالحرمان المتواصل له من الدرس وغيرها.

ومن الأمور التي أصبحت شاذة في الآونة الأخيرة وتجدها على لسان العام والخاص هي سلوك العنف .والحديث هنا بالأساس منصب على عنف المدرس على التلميذ لأنه وللأسف لا يعذره احد ولا يقدره احد – في ظل الهجمة الشرسة على العلم والمدرس وانتصارا للجهل والجاهلين في كل أقطار الأمة العربية – ولان التلميذ اليوم أصبح “السوبرمان” الذي لايكذب ،وهو المقهور والمراهق والمعقد والحساس ولا يجب أن يعنف وزد على ذلك من مفردات التربية التي لم يوفق التلميذ الحالي في حملها ولا القرب منها حتى.

و اختيارنا المدرس هنا ككبش فداء نابع أساسا من كونه صاحب رسالة العلم وحاملها ، انه ربان السفينة والعالم بأحوال البحر والبحارة ولا ينقص من قدره إذا حملناه مسؤولية ما يقع من عنف وإنما لتحذيره حتى لا يدخل في أجندة المتشدقين عن المدرسين وما أكثرهم اليوم ،ثم لكونه ميزان العدل والعقل وقد اختاره الله سبحانه وتعالى قبلنا عندما قال في سورة الزمر الآية (9)” قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ” وقوله في سورة فاطر الآية 28″إنما يخشى الله من عباده العلماء “وله من الطرق والآداب ما يمنعه من التفكير في ترهات لا تفيده ولا تقدمه .

والمربي الناجح هو الذي يسلك طريق الحلم والصبر في معاملته لمتعلميه، فيعترف بنقصهم ويفهم أنهم على أمزجة مختلفة ،ومستوياتهم في الفهم والإدراك متفاوتة وهم على كيانات مستقلة واستعداداتهم تتراوح بين الهمة تارة والخمول أخرى، وما ينتابه هو كانسان بين الفينة والأخرى يصيب هؤلاء التلاميذ، فلا داعي للوقوف عند كل كبيرة وصغيرة، والعيش في تفاصيل الأحداث الهامشية والجانبية .والمتعلمون أمام ذلك في حاجة ماسة إلى من يتَّسع قلبه لهم، فالمربِّي والْمُعلِّم كما قيل كالشمعة تحترق لتضيء لغيرها، فالمربِّي تهمُّه سعادة وصلاح الناشئة وأجره يحتسبه عند الله تعالى.

ومن متطلِّبات الصبر أن يكون صبورًا على معاناة التعليم وتقريب المعلومات وتوضيح الأفكار للمتعلمين مرةً تلو مرة ، وذلك يتطلَّب مراسًا وتكرارًا وتنويعًا للأساليب، وحمل النفس على ما تكره وعلى تحمل المشقة والتعب .

ويبقى سر قيادة الفصل بنجاح منقطع النظير أن يعتمد المدرس على التواصل وطرائقه المختلفة ليتعلم آليات التقدير والاحترام وتجاوز قصور المتعلمين الأخلاقي وإدارة الفصل إدارة حكيمة فيها من التوازن النفسي ما يخدم المدرس والمتعلم معا.

ومهارة التواصل من المهارات التي تحقق فيها إجماع كل الفاعلين في الحقل التربوي. في مقالة بعنوان “ماذا يفعل الأستاذ العظيم؟”(5) تطرق الكاتب إلى تسع صفات تجعل الأستاذ عظيما في فصله وهي التواصل ومهاراته، والاستماع الجيد للمتعلمين، آو حسن الإنصات وعمق المعرفة لدى المدرس والقدرة على تطوير العلاقات مع المتعلمين والقرب منهم والإعداد والتنظيم وحسن المظهر…وغيرها. وقد كانت مهارة التواصل باللون البرتقالي في الرسم البياني رفقته هي الصفة البارزة والمسيطرة على كل هذه الصفات في استطلاع للرأي حول هده المعايير التسعة، (انظر الرسم البياني)(6)

إذ بلغت نسبة 23 % بمعنى أن المصوتين يضعون دائما التواصل نصب أعينهم سواء فيما يتعلق بسبب المشاكل بانعدام التواصل أو الحل لهذه المشاكل ، بينما باقي النسب توزعت على العناصر التسعة الأخرى ،ولا تخفى أهمية التواصل في حل كل ما استعصى من المشاكل سواء داخل المدرسة أو خارجها .

ونخلص أخيرا إلى أن مهنة التدريس مهنة راقية برقي أصحابها وسامية بسمو أخلاقهم. بها تبنى المجتمعات وعلى أساسها نعد الأفراد لتحمل المسؤوليات ،ولا يمكن حصرها في صفتين أو ثلاثة صفات وانتهى الأمر، بل العكس فهي جامعة لكل صفة جميلة خيرة ودافعة لكل صفة ذميمة شريرة. تكتمل مهنة المدرس والتدريس باكتمال المحاسن والأخلاق، فالتدريس لا يستقيم دون إخلاص وتقوى لله عزوجل وتجنب النفاق والرياء ،واعتماد الوضوح والتعاون وحب الخير لكل متعلم ساع إلى طلب العلم ،وتحقيق العدل بين المتعلمين وإنصافهم بغض النظر عن سلوكياتهم وتصرفاتهم .

قائمة المراجع باللغة العربية
[1] عبد الرحمان ابن خلدون المقدمة الجزء الأول دار الفكر – بيروت لبنان – 2001ص 543
[2] ابن عبد البر جامع بيان العلم وفضله، ج2 ص53 بتصرف كبير
[3] جامع بيان العلم وفضله، ج1 ص135.
ويبوغرافيا
(4)http://www.al-jazirah.com/2016/20160229/rv2.htm نجوى الأحمد – الرياض
(6-5) Syed Hunbbel Meer « what makes a great teacher ? » Updated on September 7, 2018 https://owlcation.com/academia/Characteristics-Of-A-Good-Teacher

* أستاذ السلك الثانوي التأهيلي بوزارة التربية والتعليم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *