وجهة نظر

الرؤية الاستعمارية للمركز والهامش

كان الاستعمار الفرنسي للمغرب يسعى بالأساس إلى جني الأرباح بشكل سريع وآلي دون توفير بنية اقتصادية وإنتاجية تعود بالنفع على المغرب في المدى المتوسط أو البعيد، كما أن الرفض الشعبي لسلطة الحماية في بعض المناطق، ساهم في تركيز الحماية منذ البداية على السواحل المطلة على الأطلسي، وتحويلها إلى مركز رئيسية. حيث لعبتْ الدار البيضاء والرباط بصفتهما نقطتا انطلاق الطرق الطبيعية التي تشعبت في كل الاتجاهات، كما كانت هذه المناطق تمثل تقليدياً ما يعرف ببلاد المخزن، وبالتالي كان لدى سكانها قابلية للركوع والخضوع أكثر من سكان بلاد “السيبا”.

المغرب النافع حسب الاستعمار يتمثل في الدار البيضاء، فاس، مكناس، الشاوية، دكالة، ومراكش. المناطق والجهات الغنية فلاحيا وذات الإمكانيات الاقتصادية المهمة التي يمكن استغلالها واستنزافها، وهذه الجهات هي التي استفادت من أكبر حصة من الاستثمارات العمومية خلال فترة «الحماية»، أما المغرب غير النافع فهو باقي الجهات الجبلية والتي لم تعرف أي نشاط يذكر سوى استخراج المواد الأولية وتصديرها.

وعموما، إن نظرية التقسيم قامت على أساس إنعاش الجهات المؤهلة لتنمية الرأسمال الاستعماري، وتجاهل الأخرى التي تظهر فيها إمكانية نمو ضعيفة، لأن الذي يحكم في نهاية المطاف حسب هذه النظرية هو نتيجة الربح الصافي، ولا يهم أن تؤدي إلى اختلالات أو اخفاقات سوسيو اقتصادية، بل المهم هو ارتفاع أرباح المستعمر، ولو أدى ذلك إلى إفقار الجهات الفقيرة أصلا.

المؤسف في هذا الصدد هو استمرار المسؤولون في مغرب ما بعد 1956، في تلك النظرية الاستعمارية البغيضة، ما جعل المناطق الجبلية والجنوبية تعاني من هذا التقسيم إلى حدود الآن رغم أن هذه مناطق غنية بعدد كبير من المواد الأولية الذهب، والفضة والنحاس…، وغيرها من ثروات الأرض التي تستخرج وتشحن عبر مركبات إلى المغرب النافع، ويستمر المغرب غير النافع يعاني من الجروح الغائرة التي خلفها المستعمر دون تدخل المسؤولين المحليين والوطنيين لتصحيح الوضع، اللهم بعض الوعود هنا وهناك لبعض الفاعلين الأساسيين في البلاد، لكن مسؤولي هذه المناطق لا يريدون أن يفهموا أن مسؤوليتهم كبيرة، في الدفاع عن بلادهم والسعي بكل الوسائل المتاحة لتحسين وضعية منطقتهم، ألا يعلم هؤلاء أنه في بعض الأقاليم لازال الناس يعيشون الحياة البدائية الأولى، من العيب والعار أن يرد الجميل لهذه المناطق المناضلة التي ضحت بالغالي والنفيس من أجل طرد الاستعمار بهذه الطريقة المشينة والمحزنة وغير إنسانية.

تستحوذ هذه المناطق على الحصة الكبيرة من الطرق المهترئة والمؤسسات والمراكز الصحية إن وجدت في غالب الأحيان فارغة من الأطر والتجهزات أما المجموعات المدرسية في وضعية تحسد عليها، أبناء هذه المناطق ناضلوا نضالا مريرا بهدف انتزاع بعض الأشياء البسيطة، أما إذا قدر الله ووقعت حادثة فلن تصل سيارات الإسعاف إلا في الوقت الذي تجد الضحية قد فرق الحياة وانتقل إلى الرّفيق الأعلى. أما المسالك القروية، فحالتها تسوء أكثر في فصل الأمطار الموسمية، إن وجدت هذه المسالك تخبرك بوجود دواوير ومداشر تعيش الإهمال والنسيان والعزلة، إن هذه المناطق تزداد حالتها سوءا مع كل يوم، ولا يكلف أحد نفسه من المسؤولين بأن يقوم بزيارة لهذه المناطق ويقف عند مطالب سكانها البسطاء الذين لا يطلبون شيئا غير معاملتهم كمواطنين، وتحقيق أدنى شروط العيش الإنساني.

وفي فصل الشتاء، الذي نعيش بدايته، وبالإضافة إلى البرودة الشديدة، وتساقط الثلوج، تعيش العديد من القرى بمعزل عن العالم الخارجي لأسابيع. ويمكن أن تصبح نزلات البرد البسيطة مرضًا أكثر خطورة في ظل هاته الأجواء. حان الوقت للدولة أن تضاعف جهودها لتحسين البنية التحتية للمناطق القروية من خلال تشجيع الاستثمار وخلق فرص الشغل في البوادي والقرى وبناء المزيد من المراكز الصحية والمدارس وتعبيد الطرق وإيجاد الماء الصالح للشرب والكهرباء والنظافة والنقل المدرسي، وجميع الخدمات اللازمة ووسائل الراحة لضمان كرامة المواطن المغربي القروي.

وفي هذا الإطار أطالب بتفعيل مشروع الجهوية الموسعة الذي من شأنه أن يساهم في النهوض بالمغرب غير النافع، لأن الجهوية ستضع المسؤولية المباشرة على عاتق سكان هذه المناطق، حيث أن التهميش نتيجة طبيعية للمركزية وحصر القرار والسُّلطة في المركز.

وفي تقديري ينبغي على الدولة أن تساهم في فك العزلة عن البادية والمناطق النائية بخلق باستثمارات ومشاريع اقتصادية واجتماعية وتـثـقيفية بالعالم القروي، بهدف تحقيق العدالة المجالية، ومحاولة تجاوز التقسيم الاستعماري: المغرب النافع والمغرب غير النافع يحتاج مجهودات جبارة ومضنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *