وجهة نظر

التربية المجتمعية وصراع النموذج القدوة

” نحن أنانيون.. نرغب أن نرى سقوط الظلم وأن نرى ثمرة أعمالنا ونحن أحياء.. إنها أنانية محضة.. لماذا لا نجعل الخير يعبر فوق أجسادنا.. كل الخير أن تسقط أجسادنا لينهض العدل ” – عبده خال –

يصعب أحيانا تحقيق حد أدنى من التفاعل مع قضايا المجتمع. وأعني بذلك تخصيص قراءة صادقة ومنصفة لإشكاليات تنميط بعض حاجيات وضروريات المواطنين. مع أن الالتفات إليها، بالتفاصيل الدقيقة والمتاهات الجائرة، التي غالبا ما تنهك القوى، وتذهب العقول، وترمي بالأمل والأمان في قيعان الجوائح. تجد نفسك كإعلامي محاطا بأسئلة حرى، لا قبل لك بها، مقيدا بركام من التأويلات وندوبا من الفوارق والآثار البارزة بين تلابيب التيه والاجتزاء القاسي لمواقد الألم وصنوفه الثاوية!
وأحيانا أخرى يعتريني نوع من الشك، وكثير من الحسرة، مدبوغين بقلق مستمر، عن تجذر ثقافة الغش، وتعاظم ظواهر القسوة والشراهة وسوء التقدير، في مواقف، كان من المفروض أن تكون منطقة ظل واطمئنان، وساحة مواطنة وترقي.

كيف يمكن قراءة الحالات المجتمعية الشاذة، عند انزلاق كل هذه الحواجز الذهنية، التي تستحيل أحيانا إلى عوائق سيكولوجية، تثير فرزا في رؤيتنا للنموذج القدوة، فتهدم الصروح المتهاوية، بعد استيلابها من جوهر كينونتها، وإغمارها بلبوس التورية والجمود.

خلال العشرية الأخيرة من القرن الجديد تكاثرت أحداث سقوط النموذج القدوة، في مجتمع يتداعى أخلاقيا وقيميا، مدفوعا بمنطقيات الصراع الوجودي المادي، ومتعاليا على الفعل المواطناتي، سلوكا وممارسة. وأضحى تعزير الظواهر واستنزافها جدلا ونقاشات عقيمة، مصلحة شاغرة في بوليميك الإعلام والصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي.

لم يعد النقد الاجتماعي ولا تفكيك مظاهره السوسيولوجية أو الثقافية عنصرا في براديجم تحليل الظاهرة الاجتماعية. بل، عقما فكريا واصطفافا أيديولوجيا ودينيا في أتون القطيعة التي شلت حركات تنظيم مبدأ الإنسية وعلاقات التسامح والسلم الاجتماعي، بعد أن غيبت جوانب هامة وأساسية من كل ما ذكر في نظم ومناهج تعليمنا.

كل النماذج القدوة التي تقصر عن إدراكها عبارات التقديس والسمو، والأصالة الإنسانية والرحمة الربانية، باتت مليئة بالثقوب والفراغات والتشوهات الخلقية.
لا أستثني أحدا هنا، فالقدوة مستدركة في النخب قبل العوام. لا تتقاطع والتزامات الطبيب في عيادته، والمهندس في ورشه والطيار في سياقته، والسياسي في برنامجه الانتخابي، والجندي في بندقيته، والبريدي في أمانته، والخبير في شهادته، والقاضي في عدالته، والمحامي في بحثه عن الحقيقة، والعالم في ابتكاراته، والإعلامي في تقصيه الصدق، والمقاول في دقة تعاملاته …إلخ.

وحتى لا أكون مجحفا، فقد استقطرت حقيقة إدراكي ما اطلعت عليه، طيلة سنوات عديدة من العمل الإعلامي المهني، وخلصت إلى أن استفحال الداء وانتشاره، تحت سماء من الصمت مستمرة ومتآمرة، يزيد من هلاك الناس وتثبيطهم، أو على الأقل عزلهم عن إدراك قيمة تسخيف هؤلاء جميعا، ممن ذكرناهم يمثلون أنموذج القدوة المجتمعية وزبدتها.

ولكي أكون أكثر صراحة، فإنني أحمل نفسي قبل غيري هذا الحضيض الخاسف، وتلك الغرقة الهابطة، التي وصلنا إلى دركها، بعد ضياع أزمان وتلف جسوم وأطراف من حيوات غبية.

فقد اعتدنا أن نرى الرداءة ولا ننبس ببنت شفة، وتعايشنا معها حتى باتت جزءا من مذهبياتنا واحتياجاتنا، ولم نتدارك الامتهان الشديد من وفرة الفساد واستمراره، وما يوازيه من الإذعان والاستسلام والضمور الأخلاقي. تماما كما أدرك الكبير جبران خليل جبران ذلك عندما قال: ” المخطئ لا يرتكب الخطيئة الا بإرادة مستترة من المجتمع”.

فهل نحتاج اليوم، بعد بيات طويل ونكت للأيمان والأعراف والمسؤوليات الجسام، أن نصيب أو نخطأ؟! أو نعيد صياغة ثقافة مجتمعية مناهضة للماضي المعتم القريب والبعيد، دون أن نملك حق التغيير، في الوقت الذي لا نستطيع فيه إنقاذ أنفسنا من الاجترار بالحشو الزائد والتنصل من أحقية ممارسة الحرية، ونحن لا زلنا نعلم أننا نصيح في واد لا قرار له ولا مصير؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *