منتدى العمق

مقاربة سوسيولوجية للعمل الجمعوي بالمجال الواحي

يعد العمل الجمعوي إحدى الآليات الأساسية التي تساهم في تحقيق التنمية كما يعد من أهم الوسائل المستخدمة للمشاركة في النهوض بمكانة المجتمعات في عصرنا الحالي، ويكتسب أهمية متزايدة يومًا بعد يوم، ولاسيما مع اتساع الهوة بين موارد الحكومات وازدياد احتياجات الشعوب، حيث برزت الأشكال التضامنية، لسد تلك الفجوة. ولم تعد الحكومات قادرة على توفير احتياجات أفرادها ومجتمعاتها سواء في البلدان المتقدمة أو النامية. فمع زيادة تعقيدات الظروف الحياتية ازدادت احتياجات المجتمع وأصبحت في تغير مستمر، ولذلك كان لا بد من وجود جهة أخرى تساند الجهات الحكومية وتكمل دورها لتلبية الاحتياجات الاجتماعية، ويطلق على هذه الجهة “منظمات المجتمع المدني حيث يتفق المهتمون بأمور التنمية على أن التعاون ما بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني مع بعضها بعضًا هو شرط ضروري لإحداث التنمية الحقيقية وفي أحيان كثيرة يعد دور هذه المؤسسات أو المنظمات الأهلية دورًا سباقًا وليس تكميليًا في معالجة بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وأصبح يضع خططًا وبرامج تنموية تحتذي بها الحكومات.

ولقد برزت الجمعيات في المغرب كامتداد لإرث اجتماعي منبثق من هياكل المجتمع على امتداد التاريخ، وهي بلورة لتنظيم جماعي ولحاجيات المجتمع. كما تمثل الجمعيات اليوم فضاءات لممارسة الحرية والمشاركة المواطنة وخلق للمبادرات الجماعية ولتجسيد قيم التضامن، فضاءات تتزايد أهميتها في المجتمعات الحداثية بقدر تراجع التماسك الاجتماعي، وتزايد حدة الإقصاء الاجتماعي وتهميش لشرائح واسعة من السكان وتعرضهم للهشاشة الاجتماعية، بفعل عجز هذه المجتمعات عن المزاوجة بين إنتاج الخيرات والنمو الاقتصادي من جهة، وبين خلق مناصب الشغل وتعميم العيش الكريم، وما يستلزمانه من عدالة اجتماعية من جهة أخرى”
فبعد أن كان الهدف الأساسي لهذه الفضاءات هو تقديم الرعاية والإعانة للمجتمع، أصبح الهدف الآن إحداث التنمية في المجتمع “.وبالطبع يتوقف نجاح تحقيق الهدف على صدق وجدية العمل الجمعوي وعلى رغبة المجتمع في إحداث التغيير وتحقيق التنمية. ولذلك تعتبر الجمعيات إحدى الركائز الأساسية لتحقيق التقدم الاجتماعي والتنمية بمختلف جوانبها، ومعيارا لقياس مستوى الرقي الاجتماعي للمجتمع والأفراد.

وقد استطاعت هذه الجمعيات ان تستأثر باهتمام الحكومات و المنظمات الدولية و الوطنية، و أصبحت المخاطب المفضل بالنسبة للجهات المانحة للمساعدات و الممولة للبرامج التنموية، لأنها تستجيب لحاجات و متطلبات المواطنين و تعمل على تأطيرهم داخل مجموعات، في إطار مقاربة تشاركية ، و التي تشكل (مقاربة تشاركية) العمود الفقري لنجاح أي مبادرة تنموية. خصوصا بعدما أبانت المقاربات الكلاسيكية، البيروقراطية عن فشلها الذريع في المضي قدما نحو التنمية الشاملة المنشودة.

إن الهدف الرئيسي الذي تصبو إليه الجمعيات يكمن في إشراك الفرد في تكييف وتحديد المشاكل العامة التي يعيشها ثم ترتيبها وتنظيمها في شكل اقتراحات ومطالب اجتماعية والسعي لإيجاد الحلول الملائمة لها بالتنسيق مع السلطات العمومية المختصة، فالجمعيات هي أكثر من أن تكون إطار اجتماعي لتمثيل المصالح فحسب، بل هي كذلك وسيط اجتماعي بين الأفراد والسلطات باطلاعها على المطالب والحاجات المحلية.

في الجزء الثاني من كتابه الديمقراطية في أمريكا كتب أليكس دو توكفيل: (Alexis de Tocqueville) “إن الأمريكان في جميع الأعمار ومن جميع الطبقات والأماكن نجدهم يكونون الجمعيات فليس لديهم شركات صناعية وتجارية فحسب بل لديهم جمعيات في شتى أنواع المجالات الدينية والأخلاقية والخيرية… إنهم يكونون الجمعيات باستمرار في كل نواحي حياتهم وفي كل مجال، فأنت تجد على رأس كل مؤسسة جديدة ما في فرنسا حضور الدولة وفي إنجلترا حضور الرجل الإقطاعي أما في أمريكا فلا تجد إلا الجمعيات (1).

إن الحياة المحلية لا يمكن تسييرها إلا عن طريق استشارة ومشاركة المستفيدين والعمل بخلاف ذلك سوف يجعل قرارات الإدارة عملا مجردا ومفروغا من محتواه لعدم مطابقته لظروف ومعطيات الواقع، فالبرامج والمشاريع تعطي نتائج حسنة عندما تنفذ بمشاركة المستفيدين إذ هي كثيرة البرامج والمشاريع التي كان مآلها الفشل لأنها سطرت بعيدا عن إرادة السكان المحليين وقفزت في إقرارها على التنظيمات المحلية سواء كانت تنظيمات محلية أو حركات جمعوية.

ولقد مر العمل الجمعوي عبر التاريخ بمراحل تطور كثيرة و بأشكال متعددة، باعتباره ممارسة تطوعية اتسمت بالعفوية في المبادرة في البداية، ثم الانتظام واخذ الملامح المؤسساتية والرسمية لعمل أعضائها على صعيد مواجهة المشكلات المجتمعية بجوانبها المختلفة وبطريقة ديناميكية متحدية المظاهر المثبتة والمعيقات النابعة من المحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والقانوني والسياسي..

وعلى هذا الأساس فإن للجمعيات أجيال متعددة، ولكل جيل شكل من أشكال التدخل قضاياه المستهدفة، وكذلك نوعا معينا للعلاقة مع المحيط الخارجي، وخاصة مع الدولة، ولكن أهم سمات تبدل الأجيال الجمعوية هو الهدف من النشاط ونوعيته، فليس العبرة في كثرة الجمعيات ولا حتى في كثرة أنشطتها، ولكن العبرة في مدى انسجام هذه النشاطات ومتطلبات المرحلة وخصائص الفئة الموجهة إليها أو المستهدفة، وكذا مدى فاعلية الدور الذي تقوم به لفائدتها لمعالجة القضايا التي تهمها، وإحداث التغيير المرغوب، ومقياس قوة وفاعلية الجمعيات هو قدرتها على إشباع حاجيات المجتمع المستهدف في مختلف الميادين، بتمكينه من حقوقه المادية والمعنوية عبر الجمعيات، وترقية وتنمية مكتسباته، والتصدي للتحديات التي تواجهه، ولم تعد اليوم نشاطات الجمعيات محصورة في الأشكال التقليدية مثل الرعاية الاجتماعية والصحية للساكنة ، أو إقامة الحفلات والمهرجانات الغنائية و المعارض الفنية…الخ ولكن أصبح للجمعيات دور تنفيذ وتحقيق إستراتيجية التنمية الشاملة في بلدانها، بعدما فشلت الدول في ذلك بمفردها، الأمر الذي فرض مؤسسات المجتمع المدني عامة والجمعيات خاصة، باعتبارها مؤسسات مرنة وذات كفاءة في التغلغل الجماهيري والتعبئة الشعبية وتفعيل عملية التطوع وبالتالي تقليص الآثار السلبية للإصلاحات الاقتصادية. وقد أكدت المنظمات الدولية جميعها على أهمية الجمعيات والمجتمع المدني في التنمية، وذلك بإعطاء التعامل معها في إطار المساعدات المقدمة للبلدان النامية، وكذا حث الدول على إشراك الجمعيات في البرامج الوطنية للتنمية الاجتماعية والبشرية والاقتصادية، كالرعاية والإسهام في المشاريع المهنية والتوظيف إضافة إلى التحسيس ونشر الوعي الفكري والثقافي…الخ، فالدور الحقيقي للجمعيات ليس هو الرعاية الاجتماعية والثقافية والترفيه والعمل الخيري بل هو دور أكثر دينامية وهو الأنشطة ذات البعد التنموي، مثل السعي الدؤوب مع السلطات العمومية والقطاع الخاص لتوفير فرص التوظيف وتحديد أنواع الاحتياجات الأساسية من جهة والموارد والإمكانيات المتاحة لدى الساكنة من جهة أخرى من خلال الوساطة والتنسيق مع الدولة والخواص.

عرفت أدوار الجمعيات تحولا كبيرا خلال العقدين المنصرمين، بجماعة سوق الخميس دادس على وجه خاص وبالمغرب عموما، حيث ظهرت جمعيات تنموية بالجماعة، تؤمن بضرورة التدخل بالمشاريع السوسيو اقتصادية للفئات المستهدفة، التي تتشكل في الغالب من الفئات المهمشة والفقيرة، وتتميز بتصور جديد للعمل الجمعوي، ينبني على الفعل اكثر من النظرية ؛ وهذا ما لامسناه من خلال الانشطة و المشاريع المتنوعة والمبادرات الفتية السائرة في نهج بناء الإنسان الذي هو أساس كل فعل تنموي، فبعدما انصب اهتمام التجارب السابقة على تقديم الخدمات الاجتماعية وتلبية الحاجيات، أصبح تفكير الجمعيات يرتكز على التنمية والتأهيل، حيث تتمثل أهداف الجمعيات النسوية بالخميس دادس وعموم الجمعيات المحتضنة للمرأة في نشاطاتها؛ في تحسین الوضعیة الاقتصادیة والاجتماعیة للمرأة القرویة، من خلال توفیر مداخیل للمرأة، وفي إدماجها في التنمیة القرویة (خصوصا في إطار مدونة الأسرة ). بتمكينها من الولوج إلى الخبرة عبر تقویة قدراتها، وبالأخص الولوج إلى الأدوات (آلات الحیاكة والخیاطة)، وتكتسي بعض أنشطة الجمعیات( تربية الدمان الماعز…) طابع الخصوصیة، تبعا من جهة للفرص التي یتیحها الوسط (ظروف فلاحیة – بیئیة خاصة) ثم حسب البیئة السوسیو- اقتصادیة (الزمن المتاح من أجل تثمین بعض المنتوجات، وجود سوق أو نقطة بیع قریبة…).

ویترتب عن الأنشطة الجمعویة استفادة النساء من القیمة التي یتم إضفاؤها على عملهن، إذ یشاركن هكذا في خلق دخل الأسرة كما یستفدن بالتالي من نوع من الاستقلالیة، وهو ما قد يكون بداية انفراج لأدوار المرأة داخل النسيج الجمعوي بدادس. وعموما فقد حذت هذه الجمعيات حذو منظمات العمل التطوعي في الدول المتقدمة والتي أصبحت في الوقت الحاضر تتبنى فكرة أهمية التدريب والتعليم والتأهيل في تحقيق التنمية للمجتمعات الفقيرة بدلا من فكرة المساعدات النقدية المباشرة ، حيث تنص فلسفة متطوعي فرق السلام الأمريكية Peace Corps Volunteers . على أنه من الأفضل تعليم الفقراء كيفية صيد السمك وتدريبه بدلا من إعطائهم سمكة ليأكلوها، أي التركيز على أهمية تعليم الناس كيفية مساعدة أنفسهمTraining Guide for Peace Corps Volunteers An NGO . فالمحرك الحقيقي للتنمية ولحل مشكلة الفقر هو من خلال تحقيق تنمية مستدامة تضمن تأمين سبل ووسائل دائمة لكسب الرزق وليست من خلال حلول مؤقتة.
أصبح النسيج الجمعوي يضطلع بدور جديد من خلال مساهمته في الاقتصاد المحلي، بخلق مشاريع مدرة للدخل، وتوفير مناصب شغل من خلال العمل الجمعوي المأجور( كالعمل التي تؤديه المكونات في مجال الخياطة والطرز…).

لكن كل ما سبق لا ينفي حقيقة أن العمل الجمعوي يعاني من أزمات واختلالات تعود لعدة أسباب منها :

• ضعف الامكانيات المادية للجمعيات.
• غياب التنسيق ما بين الجمعيات وفي ما بينها وبين المؤسسات الحكومية والداعمة لها إذْ تقتصر الصلة على تقديم الدعم المادي فقط .
• الافتقار إلى برامج عمل ورؤى واضحة، حيث تفتقر الجمعيات بشكل عام إلى خطط تنموية شاملة وبرامج محددة ضمن جداول زمنية تعكس مدى النشاط والأهداف التي يمكن تحقيقها أو تحقيق تطوير نوعي في نشاطاتها .
• اتسام نشاط بعض الجمعيات بالطابع التقليدي لتقديم الأعمال الخيرية .وكذا تقديم هذه الأعمال موسميا وفي مناسبات معينة. إضافة إلى بقاء معظم المستفيدين والمستهدفين من تلك الخدمات كفئات غير منتجة وغير عاملة بانتظار الهبات والمساعدات التي سوف تقدمها لهم تلك الجمعيات. وبالتالي لم يرتبط نشاط الجمعيات بالعمل الاجتماعي، والتنموي بمفهومه الشامل.
• عدم امتلاك بعض الجمعيات أو معظمها للمقرات الدائمة يضعف عملها.
• ضعف مساهمة النساء والفتيات في العمل الجمعوي ويرجع ذلك إلى تأثير منظومة القيم الاجتماعية والتي تحد من المشاركة الفاعلة للمرأة.
• ضعف ثقافة العمل التطوعي حيث أن الحركة الجمعوية، تفتقد للرغبة في تغيير أنماط التفكير السلبية من طرف أفراد المجتمع ومن الاعتقاد بأن التنمية مسؤولية الدولة وحدها وعن عدم العمل على تنمية القدرات الذاتية والخروج من الدائرة المغلقة للتخلف بواسطة الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني.
• اختيار بعض الشخصيات الإدارية غير المؤهلة لقيادة الجمعيات يضعف أداءها، حيث لا تعي تلك الشخصيات أهمية عقد الاجتماعات الإدارية بانتظام واعداد التقارير والمشروعات والموازنات بهدف توفير البيانات الدقيقة للجهات المقدمة للتمويل، وعدم التواصل والتنسيق مع المؤسسات ذات العلاقة .

كما نشير في هذه الخلاصة ما نعتبره آفاقا مستقبلية للموضوع من خلال تقديم بعض الاقتراحات والتوصيات التي يمكن بموجبها تشجيع جمعيات المجتمع المدني منها :

• تمكين الجمعيات من موارد مالية كافية لإنجاز مشاريعها التنموية.
• ضرورة التنسيق والتشبيك في ما بين الجمعيات.
• حيث أن الجمعيات النشيطة بالمنطقة لا تغطي نسبة كافية من استفادة سكان الجماعة الترابية التي يقطنها 17045 نسمة (حسب احصائيات 2014)، فإن ضرورة تأسيس جمعيات أخرى تنضاف الى النسيج الجمعوي للجماعة تعتبر ملحة، أو ضخ دماء جديدة في العدد المهم من جمعيات المجتمع المدني، الحاضرة بصفة قانونية والغائبة فعليا على ارض الواقع، عن طريق الاهتمام بجمعيات التخصص والتي تركز اشتغالها على مجال معين فتحقق فيه انجازات اكثر فعالية، وكذالك بالبحث المتواصل عن شركاء جدد لتبادل الخبرات والاستفادة من التكوينات في شتى اهتمامات اعضاء الجمعيات.
• إعفاء المبالغ التي يتم التبرع بها لمؤسسات المجتمع المدني من قبل دافعي الضرائب سواء أكانوا أفرادا أو شركات من ضرائب الدخل كما هو الحال في هونغ كونغ إن هذا قد يعد حافزا قويا لدافعي الضرائب لزيادة تبرعاتهم لمثل هذه المنظمات .
• تحديث وتطوير القوانين والتشريعات المتعلقة بمؤسسات العمل الاجتماعي بما يكفل تقديم التسهيلات الملائمة والتخفيف من الإجراءات الإدارية الروتينية الخاصة بإنشاء الجمعيات وتطويرها وتوسيعها .
• تدعيم النسيج الجمعوي من خلال تكوين شبكات جمعوية لتحقيق أغراضها المشتركة كآلية لتنظيم وترقية العمل الجماعي.

المصادر :
1) فوزي بوخريص (2013)، مدخل إلى سوسيولوجيا الجمعيات، افريقيا الشرق.
2) فوزي بوخريص،(2015) في سوسيولوجيا العمل الجمعوي بالمغرب من التطوع إلى العمل الماجور، م.كوثر برنت-الرباط.
3) – Alexis de Tocqueville, de la démocratie en Amérique, Tome 2,
Edition Gallimard, France, 2006,

* طالب باحث بماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *