وجهة نظر

حفريات في السياسة: الصراع والمواجهة

تذهب الكثير من الدراسات الى الإقالة حكومة عبد الله ابراهيم (2018-2005 ) وتشكيل محلها ” حكومة ملكية ” في27 ماي 1960 برئاسة الملك محمد الخامس شخصيا مع تفويض السلطات التنظيمية لنائب رئيس المجلس الحكومي، ولي العهد آنذاك الحسن الثاني الذى فوض سلطاته لمدير ديوانه رضا اكديرة ( 1922-1995) الذي كان حينها برتبة وزير، نهاية مرحلة وبداية أخرى في التاريخ السياسي الوطني.

فالمعارضة الأساسية ضد سياسة التحرر الاقتصادي لحكومة عبد الله إبراهيم، طوال تسعة أشهر من سنة 1959، كانت فضلا عن حزب الاستقلال في اطار الصراع السياسي مع ” عناصره المنشقة” العمود الفقري للجهاز التنفيذي، ما كانت تقوم به الصحافة خاصة جريدة ” ليفار” الاسبوعية التي حققت السبق بنشر خبر اقالة حكومة عبد الله ابراهيم في ماي 1960. فحسب مانقله موريس بوتان في مؤلفه “الحسن الثاني ..دوغول .. بن بركة ما عرف عنهم ” عن المهدي بن بركة قوله عن إقالة الحكومة، بأن الحركة الوطنية ” تعرضت لإنقلاب رجعي نموذجي في أبريل 1960، عندما غادرت الحكومة ضد رغبتها”.

فهناك من يرى أن حزب الإستقلال “ارتكب خطئا تكتيكيا”، بمشاركته في الحكومة بوويرين فقط بهذه الطريقة (محمد الدويري على رأس وزارة الاقتصاد وامحمد بوستة في الوظيفة )، في الوقت الذى كان اكديرة صاحب نمط الإقتراع الإسمي الأحادي في الإنتخابات، اعتبر المخطط الرئيسي لتكريس هيمنة كتلة المحافظين والمؤيدين للغرب على حساب ” القوى الوطنية والتقدمية “. غير أن حزب الاستقلال كان في الواقع أمام خيارين، فإما أن يرجع إلى المعارضة وبالتالى التحالف مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أو الاستمرار في المشاركة في الحكومة، رغم وضعه الضعيف داخلها.

وهكذا تتوزع الفترة التي قضاها حزب الاستقلال ب”الحكومة الملكية” التي شكلت في 2 ماي 1961 من النخبة السياسية، باستثناء عناصر الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، إلى مرحلتين، الأولى فترة ” التفاهم النسبي و التدابير الإيجابية للحكومة” من ماي 1960 إلى يناير 1962، والثانية فترة ” انتقاد الأوجه السلبية للعمل الحكومي” وتمتد من يناير 1962 إلى بداية 1963 تاريخ خروج الحزب من الحكومة.

و عبر جريدة ” العلم ” ، اعتبر حزب الاستقلال، ان انفراد الملك الحسن الثاني في 17 أبريل 1963 بالاعلان عن الإنتخابات النيابية والجماعية والجهوية، يهدف الى ” جعل القوى الحية، أمام الأمر الواقع”، وذلك بعد أن وصفت جريدة “التحرير ” الناطقة باسم الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، هذه الإنتخابات ب “المؤامرة الخطيرة”. أما أسبوعية ” ليفار ” الرسمية، فقالت أن هذه الانتخابات ” لبنة أولى في الصرح الذي ندعم بناءه، وحدثا سيظل محطة مضيئة نادرة، فالملك والشعب يريدان أن يتحول المغرب إلى ديمقراطية حقيقية، مع التصدي للتوجه الإستبدادي لأحد الاحزاب”.

ورغم ذلك، حققت المعارضة ممثلة في حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الإنتخابات التشريعية التي جرت في 17 ماي 1963، ” شبه انتصار ” في هذه الإستحقاقات بالحصول على 69 مقعدا رغم انقسامه، في حين نالت “جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية”، على أغلبية ضعيفة، أي 75 مقعدا من أصل 144 وأضحى بذلك حزب الإستقلال، والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، منذ 1963، أهم قوة معارضة لمسلسل تثبيت الحكم المطلق والفردي.

إذا كانت الفترة الأولى من الإستقلال إلى سنة 1960، تميزت ب” توازن هش” بين معسكرين انتهت بانقسام حزب الاستقلال ، فإن الفترة الثانية ما بين 1960 إلى 1965، أسفرت عن فقدان القوى المنبثقة عن الحركة الوطنية لروح المبادرة، وتكرس تهميش الحركة الوطنية بصفة نهائية، حيث كان من آثار ذلك، أن الطبقة السياسية لم تنفصل بصورة نهائية عن الماضي، وانعكس هذا الإستمرار في المحافظة على نفس نمط الحياة السياسية، وأن الصراع والعداوة المبالغ فيها بين النخبة، يؤديان منذ القديم إلى تماسك عناصرها، وليس إلى تفتيتها، في الوقت الذي يتوازن انقسام النخبة بفضل الدفاع عن المصالح المشتركة، والعلاقات الإقتصادية توحد ما تفرقه الإختلافات السياسية الآنية، مما يجعل سلوك النخبة، يعكس سلوك المجتمع المغربي، وفق مقاربة واتربوري في كتابه الشهير” أمير المؤمنين والنخبة السياسية المغربية”.

ومن هذا المنطلق، أصبح ينظر للسلطة ، على أنها جهاز دفاعي تؤمنه المجموعة وليس الفرد، ولكن تظل في ذات الوقت جميع الأبواب مفتوحة، لأي تحالف جديد تبرره الظروف أوالمصالح أكثرمما تمليه الإختيارات الإيديولوجية، لذلك تبدو التحالفات غير مستقرة ويستطيع الأفراد أن يتنقلوا من جماعة إلى أخري، وأن تكون لهم بالتالي إنتماءات متعددة، وهذا ما جعل المغرب من بين دول العالم الثالث القليلة التي تبنت في وقت مبكر، التعددية الحزبية التي ظلت إنعكاسا لضرورات سياسية واجتماعية. فالانشقاقات الأولى للحركة الوطنية، تظهر أنها كانت نابعة من حقيقة تطور المجتمع، ولم تكن انشقاقات مصنوعة. فعلى خلاف العديد من البلدان، لم يفض الكفاح من أجل الاستقلالإلى إقامة الحزب الوحيد وإلى تكريس هيمنة حزب معين، بل على العكس، من ذلك عرف المشهد السياسي، منذ السنوات الأولى للاستقلال، تطورا واضحا نحو التعددية الحزبية، وبالتالي شكل التعدد السياسي، ضمانا ونتاجا للكفاح لنيل الاستقلال وانعكاسا للبنية الاجتماعية وللدستو الذي يمنع قيام حزب وحيد.

وإذا كان من المعروف أن التعددية ضرورية للبناء الديمقراطي وللتنمية، إلا أنه يقتضى أن ينطوي على تعددية حقيقية في الإجتهادات والتصورات ويعكس تعددية سياسية أو إيديولوجية أو انتماءات طبقية، عوض ترجمة إرادات احتلال مواقع الصدارة والزعامة، باعتبار أن الديمقراطية ” لا يمكن أن تكون يافطة أو واجهة تعرض للسياح، بل يجب أن تكون حقيقية، تفتح في وجه الجميع حظوظ التقدم، وتستلزم نظاما للمجتمع، يقوم على تغيير جذري لأسس بنائه” حسب ما تضمنه ذات زمان ” مؤلف “الاختيار الثوري” للمهدي بن بركة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *