منتدى العمق

سيرورة تطور العمل الجمعوي بالمغرب

لقد عرف المجتمع المغربي تنظيمات اجتماعية كثيرة بالمجالين الحضري والقروي حيث كان للثقافة الإسلامية والأوقاف العرفية إلى جانب العلاقات السوسيو-اقتصادية –والسوسيو سياسية دور كبير في هذه التنظيمات. ونذكر منها على سبيل المثال: “التويزة” وأيت ربعين أو مؤسستي “اجماعة” وأمغار… والزوايا وغيرها بالإضافة للمعاهدات والاتفاقات التي كانت تعقد القبائل والزوايا . فالجماعة والوقف مثلا تنظيمات يسعيان إلى زرع روح التضامن وتحريك كل عمل جماعي(1)”.

ولقد أتاح تقليد “الجماعة” تعبئة الساكنة في الاشكال الجديدة للجمعيات الحديثة (2) التي برزت مع توقيع معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب، فكيف ظهرت هذه الجمعيات؟ وما هي ردة فعل المجتمع المغربي إزاء هذه التنظيمات الحديثة ؟ وما هو مسلسل تطور العمل الجمعوي بعد الفترة الاستعمارية ؟

العمل الجمعوي في ظل الحماية الفرنسية

يأتي ظهير 1914 الذي أقرته سلطات الحماية كأول نص تنظيمي مرجعي يضبط وينظم مأسسة العمل الجمعوي بالمغرب”.ولم يكن السياق السياسي لتلك الفترة التاريخية يسمح او يشجع على تأسيس الجمعيات وفق الشرط التشريعي القائم،على اعتبار الحساسية “الوطنية”من كل ما يأتي من السلطة الكولونيالية،و كنوع من رد الفعل على عدم الموافقة عليها كنظام أو على آليات الضبط والإدماج التي تقيمها؛ وتبغي من خلالها تبيئة المجتمع مع منظورها الكولونيالي، خصوصا أنه وإن كان مستمدا من القانون الفرنسي الصادر سنة 1901 المنظم للجمعيات الساري حينها، فقد تم تعديله ونسخ كل الحقوق وهوامش الحرية التي تتمتع بها الجمعيات في فرنسا. وارتبط التأطير الجمعوي للعمل الثقافي بالمغرب بخلخلة البنيات الاجتماعية التقليدية لهذا المجتمع. حيث كانت المؤسسات التقليدية من مثل الزوايا والمساجد والكتاب هي المراكز الثافية السائدة، والتي عمل المعمر على تحجيم دورها وتفكيكها، مما فسح المجال لبناء مؤسسات ثقافية اجتماعية حديثة تهيمن على المجال الثقافي (إعلام، الكتاب، المدرسة، الجمعية…).

هكذا ستحفز سلطات الحماية مجموعة من الجمعيات ذات الطابع المختلط المغربي الفرنسي. كما شجعت كذلك جمعيات ذات طابع ترفيهي أنشطتها لا تتصادم مع إرادة المعمر مثلا: كرة اليد، الموسيقى، سباق الخيل، التزحلق على الجليد….

ب-غداة الاستقلال:

في عهد الاستقلال فإن العمل الجمعوي أصبح يضبطه قانون الحريات العامة الذي يرجع أصله 1958، كأصل منظم للعمل الجمعوي، ويصير على حرية التعبير والاجتماع وتأسيس الجمعيات وحرية الانخراط فيها، وقد تم تعديله عدة مرات. فظهر بذلك التأثير المباشر للعمل السياسي على العمل الجمعوي والثقافي بحيث:” أن العمل الجمعوي خلال عهد الاستقلال لم يسلم من الاستقطاب السياسي. فكثير من الجمعيات الثقافية ذات الطابع الوطني، إنها هي واجهة لأحزاب سياسية، ومن الطبيعي أن الأزمات التي كانت تجتاح الحياة السياسية لابد أن تكون لها تأثير على النشاط الجمعوي(3) “.

شهدت هذه الفترة نشأة عدد من جمعيات الشباب، نذكر منها الطفولة الشعبية، الشعلة، الجمعية المغربية لتربية الشبيبة…الخ، والتي هي جمعيات تشتغل بشكل خاص في المجال التربوي والسوسيو-ثقافي، لكن بخلفية سياسية.

وعلى العموم تبنت الدولة المغربية ، ذات الموقف الحذر الذي حكم تعامل سلطات الحماية مع الجمعيات. وكما يذكر الباحث ريمي لوفو، حول الفترة التي أعقبت استقلال البلاد مباشرة، فقد كانت الإدارة تنظر بعين الريبة إلى كل تجمع للأشخاص ، ولو كان لأسباب بعيدة كل البعد عن الفعل السياسي، فهي تعتبر أن ، كل قوة قادرة على التعبئة، مرشحة من حيث المبدأ، لكي تنحرف عن هدفها الأصلي. وهكذا، فبدل أن يخف أو يتلاشى الضبط الاجتماعي و المراقبة السياسية للساكنة ، بعد خروج المستعمر، ازدادا وتعمقا في ظل الدولة الوطنية المستقلة، لدرجة أن المواطن لم يكن يتصور إمكانية وجود أي كيان مدني مستقل عن المخزن.

ج- مرحلة الستينات: إثبات الذات.

ظهر العمل الجمعوي الحقيقي بالنسبة لهذا التيار خلال الستينات، أي بعد صدور ظهير الحريات العامة سنة 1958، وبعد انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 عن حزب الاستقلال، وتشكيل حكومة عبد الله إبراهيم سنة: 1960 وفي هذه المرحلة كان النشاط السائد هو العمل السياسي والنقابي والطلابي والتلاميذي، إذ كان الصراع السياسي على أشده، وكان بمثابة حرب وجود بين اليسار وحزب الاستقلال من جهة وبين اليسار والحكم من جهة ثانية. وهذا ما انعكس سلبا على العمل الجمعوي بحيث كانت هناك جمعيات قليلة وغير نشيطة.

د- مرحلة السبعينات:

عرفت الحركة الجمعوية، تناميا متزايدا تمثل في تنوع وتزايد انشغالاتها، وأهدافها، واختصاصاتها، حيث أصبحت تفرض نفسها كمخاطبة، سواء في مجالات التنمية، أو الحقوق الإنسانية للنساء، والأطفال والتنمية، والديمقراطية، أو حقوق الإنسان وغيرها…

ظهر كذلك التيار اليساري الجديد الخارج عن الإطار القانوني فتنشط العمل الجمعوي وتم تعميم الخطاب الثقافي. إلا أن التضييق على العمل الجمعوي أدى إلى تراجع الحركة الجمعوية، وجمودها باستثناء جمعيات محدودة مثل أوراش، والطفولة الشعبية…

ويتجلى ذلك في أن “التصنيف القانوني على نشاط الجمعيات لا يظهر في التدابير المتخذة سنة 1973 وحدها، بل أيضا في الغموض الذي يحيط بممتلكات الجمعيات وأهليها القانونية والنظام المالي والضريبي الذي تخضع له4 “. هذا القمع الممنهج ومصادر الحريات والاعتقالات التعسفية، والحصار السياسي والانفراد بالسلطة كان له أثر كبير على النسيج الجمعوي الفتي. مما أفرز ثنائية دولة مجتمع بينهما علاقة صراع ومنافسة، دولة تمارس فيها السلطة وحركة جمعوية رافضة لكل أشكال القمع. هذا الصراع لجأت الإدارة المخزنية إلى إنشاء أحزاب إدارية وجمعيات جهوية تعرف بجمعيات السهول والجبال والوديان. أغدقت عليها المساعدات، لكن هذا العهد لم يطل فقد فطنت أجهزة الدولة إلى أهمية التعامل مع كافة الفاعلين ومكونات المشهد الجمعوي.

وعموما يمكن وصف هذه المرحلة كالاتي :

• مؤاخذة السلطات العمومية على الجمعيات ارتباطها بالأحزاب:
• توتر العلاقة بين الطرفين
• تهميش الجمعيات
• دور الجمعيات في التنمية الاقتصادية والاجتماعية:
• انفراد الدولة بآليات ووسائل التنمية، والاضطلاع بتلبية حاجيات المواطنين في مجالات: التشغيل، الصحة، التعليم، البنيات التحتية…
–   ما هي مؤهلات الدولة للقيام بهذا الدور؟
–  الرخاء الاقتصادي والمالي والمرتبط بعاملين أساسيين:
• ارتفاع أسعار الفوسفاط في السوق الدولية
•  سهولة الحصول على  التمويل الدولي ( القروض )
–   ما هي انعكاسات هذه الوضعية؟
–  اقتصر العمل الجمعوي على الاهتمام بمجالات محددة:
• التنشيط الثقافي و الفني: جمعيات ثقافية، مسرحية، أندية سينمائية، جمعيات رياضية…
• العمل الخيري والإحساني…
ه- مرحلة الثمانينات:
–   تغيرت أوضاع المغرب على مستويين أساسيين:
• الأزمة الاقتصادية والمالية
• النمو الديموغرافي السريع
–   عجز الدولة عن الانفراد بالاضطلاع بمهامها في مجالات: التشغيل، الصحة، التعليم، البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية
–   ازدياد الحاجة إلى شريك يساعد على حمل عبئ التنمية:
• ضعف النسيج الجمعوي على مستوى الإمكانات، التكوين والتأطير.
• انعدام الثقة بين الطرفين.
–   إنشاء جمعيات شبه رسمية تمولها الدولة بطرق مختلفة:
• ضعف المردودية
• عدم النجاح في اختراق النسيج المجتمعي.

“فقد عرفت هذه الفترة تزايدا كبيرا لعدد الجمعيات بشتى أصنافها في البوادي والمدن وتضاعف عدد المهتمين بالشأن الجمعوي، ثم الضغوطات الخارجية التي فرضتها المواثيق الدولية كلها عوامل جعلت من المغرب يخطو نحو إغناء ترسانته القانونية بالشكل الذي يتماشى ومبادئ الحريات العامة(5) “.
وقد تحولت الجمعيات، في ظل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية إلى فضاء لإعادة رأب صدع الرابطة الاجتماعية المبتورة بين الفئات الاجتماعية المقصية من النظام وباقي الفئات الأخرى داخل المجتمع، وإلى مجال لمواجهة آثار الإقصاء الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي والثقافي.

و- نهاية الثمانينات وبداية التسعينات:

–  عرفت ظهور موجة جديدة من الجمعيات إما بمبادرة فعاليات وطنية، أو بدعم دولي أحيانا مثل: الهجرة والتنمية، أدرار إملشيل، زاكورة، أمانة، إنماء…وتركز الاهتمام على :

•  العالم القروي على مستوى: الصحة، محاربة الأمية، التكوين، البنيات التحتية…
• الوسط الحضري على مستوى تشجيع التشغيل الذاتي، منح  القروض الصغرى …
– كما شهدت المرحلة دينامية جمعوية غير مسبوقة في تاريخ المغرب الحديث. لا سيما في المناطق النائية والمهمشة التي ظلت لعقود تفتقر التنظيمات الجمعوية كفضاءات للمشاركة والإبداع. والمثير، أن سكان هذه المناطق، استوعبوا بسرعة فائقة التنظيم الجمعوي كأداة للتنمية، حتى ولو أن خلقها لم يصبح بعد مسألة سهلة التحقيق، خصوصا في المناطق المعزولة، المفتقرة إلى موارد بشرية متعلمة ومؤهلة.
و لا يمكن فهم هذا التطور المضطرد للديموغرافيا الجمعوية منذ بداية التسعينيات ، ولمساهمتها في ملء الخصاص الديمقراطي و التخفيف من أشكال عجز السياسات التنموية الرسمية ، دون الأخذ بعين الاعتبار تغير سلوك الدولة، التي بدأت تعيد النظر،شيئا فشيئا، في سياساتها تجاه الجمعيات، والمجتمع بشكل عام، من خلال
تجاوز مقاربتها الفوقية، السلطوية ، المركزية والتوجيهية ، التي تنظر إلى السكان وإلى تنظيماتهم المدنية، ككيانات سلبية، وعاجزة عن تنفيذ المشاريع التي تتعلق بها، نحو اعتماد مقاربة تشاركية ، لامركزية، تصاعدية، ومنفتحة على الجمعيات، وعلى باقي الفاعلين المجتمعيين الآخرين.
ولا يمكن فهم التطورات التي شهدها العمل الجمعوي ببلادنا خلال هذه الفترة، بدون ربطها بالدينامية التي شهدها المجتمع المدني الدولي، في سياق مجابهته للتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة، المتمخضة عن العولمة، والأخطار التي تمثلها.حيث تطورت إستراتيجية الممولين الدوليين في تجاه تقديم تمويلات ومساعدات أكثر للجمعيات، خصوصا أمام تفاقم مشاكل الدولة (سوء التدبير و الفساد..الخ).

وعلى سبيل الختم يبدو من كل هذا، أن العمل الجمعوي مر من أشواط هامة ومن صراعات كبيرة إلى أن وصل إلى بر الأمان، و أصبح أداة لتحقيق التنمية المحلية عوضا عن غريم للدولة، و للصراعات بينها و بين الأحزاب السياسية. يمكن الحديث إذن عن مراسيم الزواج بين الاثنين والتي لا مفر منها، بحيث أن قوة الدولة تكمن في قوة المجتمع المدني و قوة هذا الأخير كامنة هي الأخرى في قوة الدولة إنها تماما العلاقة التي تحدث عنها هيجل في كتابه “مبادئ فلسفة الحق”، و نفسها ما أشار إليه غرامشي بخصوص فشل الثورة في بلدان أوربا الغربية نظرا لفعالية المجتمع المدني في هذه البلدان.
المراجع والمصادر :
1) فوزي بوخريص (2013)، مدخل إلى سوسيولوجيا الجمعيات، افريقيا الشرق.
2) فوزي بوخريص،(2015) في سوسيولوجيا العمل الجمعوي بالمغرب من التطوع إلى العمل الماجور، م.كوثر برنت-الرباط.
3) محمد شرايمي،(2007) سوسيولوجيا المنظمات غير الحكومية بالمغرب، ط1، يناير.
4) Fatima Elmarnisi ( 2003), ONG rurales du Haut-Atlas : Les Ait-débrouille

طالب باحث بماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *