وجهة نظر

هل أخطأ بنكيران بوقف دعم المحروقات؟

من الاستراتيجيات التي تلجأ اليها الأوليغارشية الاقتصادية –بتعبير موريس دوفيرجيه- هي الدفاع عن مصالحها عن طريق التوجيه المخدوم للمواطنين للدفاع عن مصالح تلك الطبقة تحت تأثير جمهرة كبيرة من السياسيين والصحفيين والأكاديميين. وهذا ما يحدث بالمغرب منذ القرار التاريخي للأستاذ عبد الإله بنكيران حين شرع في إصلاح صندوق المقاصة ورفع الدعم عن قطاع المحروقات التي كانت تستنزف بشكل خطير ميزانية الدولة وتعيق تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية؛ بحيث عاد الإعلام المخدوم والموجه هذه الأيام لمهاجمة بنكيران بسبب قراره وقف دعم المحروقات من أموال المغاربة، غير أن الفرق اليوم هو أن قرار بنكيران فضح الأوليغارشية الاقتصادية التي كانت تستفيد من أسوأ مظاهر الريع التي شهدها المغرب في تاريخه، وهي الأوليغارشية التي لم يكن يعرف المغاربة حقيقتها قبل بنكيران.

وهؤلاء ينطبق عليهم المثل المغربي “عطيني فمك ناكل بيه الشوك”، بحيث يريدون أكل أموال المغاربة بأفواه المغاربة.

فما هي حقيقة صندوق المقاصة ومن المستفيد الحقيقي من أمواله؟ ولماذا يعتبر قرار بنكيران توقيف الدعم عن المحروقات قرارا شجاعا وتاريخيا؟ وأين ذهبت الأموال التي كانت مخصصة للمحروقات بعد توقيف الدعم؟

• صندوق للأغنياء وليس للفقراء:

إن أول شيء يحسب لبنكيران خلال فترة ترؤسه للحكومة هو تثقيفه للمغاربة في مجموعة من القضايا التي كانت غائبة عنهم ولا يعلمون عنها شيئا، وهي نقاشات كانت خاصة بالنخبة؛ ومن هذه القضايا صندوق المقاصة، بحيث تمكن بنكيران من تشريح حقيقة الصندوق أمام المغاربة وحقيقة المستفيدين من أمواله التي هي أموال المغاربة قاطبة، بحيث تحول الصندوق لأحد أكبر مظاهر الريع التي يعرفها المغرب منذ حصوله على الاستقلال. وهكذا نجد أن تكاليف صندوق المقاصة وصلت سنة 2012 إلى أزيد من 56 مليار درهم (5600 مليار سنتيم) بعد أن كانت لا تتجاوز سنة 2004 خمسة مليارات درهم، وكانت الحصة الأكبر من الصندوق توجه لدعم المحروقات 48.5 مليار درهم (4850 مليار سنتيم) منها أزيد من 33 مليار درهم (3300 مليار سنتيم) كانت مخصصة للمواد النفطية (الوقود) وهذه الأخيرة هي التي قرر بنكيران وقف دعمها.

بالرغم من أن الصندوق الذي تم إنشاءه في عهد الحماية الفرنسية كان الهدف منه حماية الطبقات الشعبية من تقلبات أسعار المواد الأساسية، وبالرغم من الأموال الباهظة المخصصة لصندوق المقاصة والتي كانت تهدد بإفلاس الدولة المغربية، إلا أن فقراء الوطن وطبقته المتوسطة لم يكونوا يستفيدون إلا من أقل من 15% من أموال الصندوق، في حين كانت توجه الغالبية الساحقة من الدعم للطبقة الغنية والشركات.

• قرار بنكيران رفع الدعم قرار تاريخي:

أكدنا على حقيقة أساسية أكدتها كل الدراسات التي أجرتها مؤسسات وطنية مثل المجلس الأعلى للحسابات، وهي أن المستفيد الحقيقي والأساسي من أموال صندوق المقاصة هي الطبقة الغنية، في حين تحصل الطبقات الشعبية على الفتات من أموال الصندوق، وهذه الحقيقة لوحدها تجعل قرار بنكيران قرارا تاريخيا وشجاعا؛ يضاف لهذا أن بنكيران اتخذ قرار إيقاف دعم المحروقات بعد الحالة الحرجة التي وصلت إليها ميزانية الدولة، والتي كانت تهدد بإفلاس الدولة مع تبعاتها الخطيرة على استقرار الوطن، بعد أن بلغت نفقات صندوق المقاصة مستويات قياسية، خصوصا مع ارتفاع تكاليف الدعم الموجه للمحروقات، وهنا نتذكر كيف اضطرت الحكومة لوقف 15 مليار درهم موجهة للاستثمار، الأمر الذي جعل موارد الدولة توجه لدعم فئات تستفيد من أموال المغاربة بدون وجه حق، عوض توجيه تلك الأموال نحو الاستثمار ونحو الفئات التي تستحقها، كما أن الدعم الذي كانت تحصل عليه شركات المحروقات كان بدون حسيب ولا رقيب، بحيث كان صندوق المقاصة يؤدي الفواتير التي تعدها تلك الشركات دون قدرة على التأكد من حقيقتها. وهنا نشير مثلا أن دولا مثل السعودية والكويت والإمارات وإيران بالرغم من أنها من المنتجين الكبار للنفط إلا أنها قامت برفع الدعم عن المحروقات إما بشكل كلي أو جزئي نتيجة تراجع عائدات تلك الدول من النفط.

لقد عرى قرار بنكيران رفع الدعم عن المحروقات الأوليغارشية الاقتصادية التي كانت تستفيد من أموال المغاربة في صمت مطبق ودون أن يعرف المغاربة من “يلهف” أمواله، بل دون أن يعلم المغاربة أن هناك صندوقا اسمه المقاصة أسس لحمايتهم من تقلبات الأسعار، لكنه تحول لبقرة حلوب تدر ملايير الدراهم سنويا على فئة محددة، ولهذا عرقل بنكيران من تشكيل الحكومة بعد انتخابات 2016، وكانت إحدى الشروط لتسهيل تشكيله للحكومة هو التوقف عن إصلاح صندوق المقاصة. فلو كان بنكيران يخدم الأغنياء حينما رفع الدعم عن المحروقات كما يروج الإعلام المخدوم، هل كان سيعرقل من تشكيل الحكومة خصوصا من قبل أكثر الأغنياء استفادة من أموال صندوق المقاصة؟

• أموال المغاربة تعود إليهم:

هل يعلم من يهاجمون بنكيران بسبب قراره التاريخي رفع الدعم عن المحروقات أن تكلفة القطار الفائق السرعة بين الدار البيضاء وطنجة بلغت 23 مليار درهم (2300 مليار سنتيم)، وهو مبلغ تم تحصيل جزء كبير منه عن طريق الاقتراض، في حين أن نفقات الوقود بلغت سنة 2012 أزيد من 33 مليار درهم (3300 مليار سنتيم)؟ إنها مقارنة صادمة أن نخصص ما يكفي لإقامة مشروع من حجم القطار فائق السرعة –ونصف- الذي تطلب إنجازه عدة سنوات لدعم شركات المحروقات في سنة واحدة!!

لقد أعاد بنكيران بقراره التاريخي وقف الدعم عن منتجات الوقود جزءا كبيرا من التوازن المالي للدولة، بل إنه يعود له الفضل في إطلاق مشاريع ضخمة غير مسبوقة في تاريخ المغرب، ما كان بالإمكان الإقدام عليها لولا القرار التاريخي لبنكيران، ذلك أن قرار بنكيران أعاد توجيه أموال المغاربة نحو وجهتها الحقيقية عوض جيوب حفنة قليلة من الأغنياء. وهذه عينة مختصرة عن المشاريع التي تحققت بعد قرار بنكيران:

– على مستوى النقل:

كان قطاع نقل المسافرين من أكثر القطاعات إثارة للمخاوف من تبعات رفع الدعم عن المحروقات، لكن الواقع يؤكد أن تلك التبعات كان مبالغ فيها، بحيث يكاد يكون تأثر القطاع بشكل سلبي شبه منعدم، وفي أسوأ الحالات تأثيرا يسيرا، لكن في المقابل كان لرفع الدعم تأثير إيجابي على هذا القطاع، بحيث تم تخصيص ملايير الدراهم لتجديد أسطول سيارات الأجرة وأسطول الحافلات، وهكذا تم تجديد 41 ألف سيارة أجرة (54% من حظيرة سيارات الأجرة بنوعيها) في المرحلة الأولى بغلاف مالي تجاوز 2.5 مليار درهم (250 مليار سنتيم)، وتم تخصيص ملياري درهم (200 مليار سنتيم) للمرحلة الثانية الممتدة من 2019 إلى 2021، كما تم تخصيص 450 مليون درهم لتجديد أسطول الحافلات. وهنا نتساءل، هل كان بالإمكان تخصيص هذه الاعتمادات المالية المهمة لتجديد أسطول سيارات الأجرة وحافلات تليق بالمغاربة لولا رفع الدعم عن المحروقات؟ لذلك لم يتضرر سائقو سيارات الأجرة برفع الدعم عن المحروقات، ذلك أن السيارات الجديدة هي أقل استهلاكا للبنزين بكثير من السيارات القديمة. فبتخصيص أقل من 15% من الاعتمادات التي كانت مخصصة للوقود في سنة واحدة فقط سيتم تجديد أسطول سيارات الأجرة بالكامل.

وفي القطاع السككي تم إنجاز مشروع ضخم وهو تثنية الخط السككي بين سطات ومراكش، بغلاف مالي تجاوز 2.5 مليار درهم (250 مليار سنتيم)، وهو المشروع الذي كان له أثر كبير في تقليص مدة السفر بين المدينتين بأزيد من ساعة، وأسهم في انطلاق قطارات أطلس التي حسنت بشكل كبير النقل السككي من ناحية تقليص مدة السفر وأوقات الانتظار والازدحام.

هذا دون الحديث عن مئات الكيلومترات من الطرق السيارة والوطنية، ومشروع الطريق السريع تيزنيت-الداخلة، وتوسيع خطوط الترمواي بمدينتي الرباط والدار البيضاء، ومشروع القطار فائق السرعة بين مراكش وأكادير.

– على المستوى الاجتماعي:

إذا كان من فضل يحسب لبنكيران من خلال رفعه الدعم عن المحروقات، فهو إعادة توجيه الدعم نحو الفئات المستحقة له، وهي الفئات التي طالما دافع عنها بنكيران وعن كرامتها وعن حقها من الاستفادة من ثروات الوطن ولو بقدر يسير.

وعلى رأس تلك الفئات نجد الأرامل والمطلقات والأشخاص في وضعية إعاقة الذين كانوا يعانون في صمت، وهي فئات ما كان بالإمكان الالتفات لها في ظل استمرار فئة صغيرة تستفيد من ملايير صندوق المقاصة المخصص أصلا لمثل تلك الفئات، وهكذا وصل عدد الأرامل المستفيدات من الدعم أزيد من 100 ألف أرملة حاضنات لأزيد من 170 ألف يتيم، وقد خصصت ميزانية 2020 لدعم الأرامل 630 مليون درهم، كما خصصت 200 مليون درهم لدعم الأشخاص في وضعية إعاقة، و1.7 مليار درهم لبرنامج “راميد”، بالإضافة لملايين الدراهم المخصصة في إطار برنامج “تيسير”. وبالرغم من هذه المبالغ الكبيرة والمهمة إلا أنها لم تصل إلى ما كان يخصص لدعم الوقود سنة 2012، مما يظهر مدى الريع الذي كانت تنعم فيه الفئة التي كانت تستفيد من دعم المحروقات.

أما في قطاع التعليم، فإننا نتساءل، هل كان بالإمكان توظيف ما يقارب 90 ألف أستاذ –أطر الأكاديميات- في السنوات الأربع الأخيرة لولا رفع الدعم عن المحروقات؟ إن عملية التوظيف هذه وتأثيراتها الاجتماعية الإيجابية هي أكبر دليل على نجاعة قرار بنكيران رفع الدعم عن المحروقات، لأنه قبل رفع الدعم وصلت الأزمة المالية حد البحث عن موارد لأداء أجور الموظفين، فما بالك التفكير في توظيف أزيد من 40 ألف موظف سنويا.

لقد كان بنكيران رجل دولة بحق بالرغم من اتهامه بالشعبوية في بداية رئاسته للحكومة، لهذا كانت عنده الشجاعة الكافية لاتخاذ قرارات كان من المحظور الاقتراب منها، ومنها قرار رفع الدعم عن المحروقات وإعادة توجيه أموال المغاربة نحو الوجهة الحقيقية لها عوض أن تبقى موجهة لجيوب عدد قليل من الشركات والأفراد، لذلك على المغاربة الوعي بأن المتضررين من قرار إصلاح المقاصة والذين أصبح المغاربة يعرفونهم حق المعرفة يريدون توظيفهم في معركة غير معركتهم ويريدون العودة تحت ذريعة “الدفاع عن مصلحة المغاربة” للاستفادة أسوأ مظاهر الريع التي شهدها المغرب في تاريخه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *