وجهة نظر

بقى فدارك

التضامن الممزوج بالشفقة، أول احساس ينتابنا في هذه الظروف التي يمر منها المجتمع المغربي. آلاف العائلات توقفت لديها دورة الحياة، تواجه الموت الذي يحاصرها من كل جانب. موت جراء انقطاع مصدر الرزق وموت بالوباء مع احتمال الاصابة ب”كورونا”.

أشخاص مسنون أحيط بهم من كل جانب، فلا هم قادرون على العناية بأنفسهم ولا “كورونا” تركت لهم من يعتني بهم. ومرضى آخرون وجدوا اجسادهم التي نال منها السقم و نخرتها الاوجاع، مجبرين على تقاسم غرف المستشفيات مع وافدين يحملون الرعب معهم، ينامون بجانبهم، دون احتياط من هذه العدوى الفتاكة، رمت بهم السلطات الصحية داخل بيوت باردة تشتم فيها رائحة الموت في كل أرجائها و تطفو عليها كل مظاهر البؤس و الإهمال.

البقية فرضت عليهم العزلة داخل منازلهم. تركتهم الجائحة القادمة عبر طريق الحرير، وجها لوجه مع العاصفة الهادئة و المظلمة، عاصفة تحطم كياناتهم و تجعلهم محاطين بكثير من الالم وقليل من الأحباب. أفرغت المقاهي و نوادي الرفقة، و اغلقت الشوارع الى حين. واضطر الانسان الى التأقلم مع محيطه الاول، وبنياته الأصلية، يخاطب ذاته و كيانه، و أجبرته العزلة على الاستماع لأفكاره و علمته أن يصير أقرب الى نفسه من ذي قبل، محاولا اقناعها ان السعادة مصدرها “الانا” و ليس الغير !

غير ان في كل محنة منحة: فهذه الجائحة بلا شك فرصة لتغيير بعض العادات السيئة، و فرصة للانفتاح على أمور مهمة نجهلها او بالأحرى نتجاهلها في معيشنا اليومي العادي. سواء على المستوى الشخصي او على الصعيد الجماعي.

فعلى المستوى الجماعي –الجمعي- يبدو ان هذه الجائحة غير المسبوقة ستترك بصمتها على عولمة التبادلات، و معطى الاعتماد على الاخر. حيث انها ستدفع بكثير من الدول الى اعادة النظر في مسالة الاعتماد على الخارج في كثير من المجالات، و تجعلها تركز في سياساتها على “الامن الداخلي” في مواجهة الازمات. كما ان جل الامم ستستوعب ضرورة الاعتماد على الطاقات المحلية في كثير من المجالات، المادية و المعنوية. لأن نظرية التبادل المعولم و تقسيم العمل الدولي أثبتت هشاشتها و عدم نجاعتها لضمان البقاء و الاستمرار امام الازمات. كصناعة الادوية و المستلزمات الطبية …الخ هذه العملية التي يجب توطينها و ايلائها الاهمية القصوى.

من جانب اخر، هذه الجائحة لابد وانها ستدفع دولا كثيرة الى التفكير في استدامة العادات الجيدة التي فرضت عليها في هذه الظروف و استدماجها، و خاصة منها تلك التصرفات الصديقة للبيئة، وجعلها تصرفات ارادية و مستدامة لحماية محيطنا البيئي، والحفاظ على عدة اصناف من الكائنات التي نتقاسم معها هذا الكوكب الهش. ومن جملة هذه الاجراءات، تقنين استعمال وسائل النقل الفردية و الملوثة، و ترشيد حركات الطائرات و السفن و تنقل الاشخاص، مع التفكير في بدائل صديقة للبيئة.
فهذه الاموال التي ظهرت فجأة مع “كورون”، لحماية الاقتصاد العالمي كان يمكن لها ان تستغل في انقاذ الكوكب الذي يؤوينا.

في هول هذه المستجدات، لابد من التفكير ايضا في فئة مقهورة تضاعفت لديها المعاناة. فئة ضحى بها المجتمع بعد ان همشها طيلة الايام العادية، انهم المشردون الذين يعيشون بدون مأوى. فهذه الفئة من اكثر الفئات الهشة ماديا و معنويا. فاغلبهم يحملون معهم أمراضا مزمنة تلازمهم في تنقلهم بين الازقة و الشوارع، و لا يهتم بهم احد و لا تقدم لهم اي اسعافات او علاجات، الا ناذرا، و بذلك فهم اكثر عرضة لهذا الفيروس.

فالحلول المقدمة لبعضهم من قبيل تكديسهم في مراكز ايواء مؤقتة، او قاعات رياضية غير مجهزة لاستقبال مثل هذه الحالات كل ذلك يسهل انتقال العدوى بينهم وتعريض الاشخاص الذين يعتنون بهم لخطر العدوى. زيادة على مشكل النظافة المنعدمة، لتواجدهم اليومي في الشارع، حيث لا يساعدهم نمط حياتهم على احترام قواعد النظافة ونظافة اليدين خاصة، دون الحديث عن استعمال الصابون و مواد التطهير. هذه الجائحة تفرض على الدولة التفكير في هذه الفئة بشكل اخص، و التخطيط مستقبلا لوضع “نقط نظافة” داخل المدن، مع ضرورة ادراج البعد الصحي الوقائي في برامج التهيئة.

“بقى فدارك”، كيف نجرؤ ان نطلب ذلك ممن لا بيت له؟ وكيف سنعالج و نعتني بأفراد يعيشون في اماكن عامة، حينما نضطر الى اخلاء هذه الاماكن؟ بل كذلك كيف يمكن تدبير “الجوار” و “التقارب” داخل مساكن ضيقة لعدة أفراد؟

هذه ليست اسئلة فلسفية، بل معضلات اجتماعية واقعية ! تحتم على الجميع التفكير بشكل تشاركي مندمج، في حلول واقعية و ناجعة لجميع الفئات المجتمعية، و خاصة منها تلك الطبقات الاجتماعية التي تقدم تضحيات دون غيرها، في أوقات الرخاء و تتضاعف لديها المعاناة كلما حلت بنا أزمة.

لا شك ان هذه الجائحة غير المسبوقة، ستعيد ترتيب عدة اولويات، و ستفرض خططها على سائر الامم الساعية الى الرقي و المجد. كما انها ستترك الكثير من المآسي لتنضاف الى اخرى لدى الشعوب التي تأبى الأخذ بزمام مستقبلها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *