وجهة نظر

كورنا وملامح النظام العالمي الجديد

على مدار التاريخ شكلت الحروب والأوبئة الأسباب الرئيسية في حدوث تحوّلات على مستوى النظام العالمي، فإذا كان من نتائج الحرب العالمية الأولى ظهور عصبة الأمم، ومن نتائج الحرب العالمية الثانية الانتقال إلى نظام الأمم المتحدة، مع ظهور قطبية ثنائية سياسية واقتصادية برزت مع الحرب الباردة، ووصولا إلى نظام القطب الواحد، والذي نظر له فرانسيس فوكوياما بنهاية التاريخ والإنسان الأخير، هذا النظرية التي رد عليها صامويل هانتجتون بصدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي، فإن ما يعرفه العالم حاليا من انتشار سريع لوباء كورنا، يجوز تسميته بالحرب العالمية الثالثة، والتي لا محالة ستؤدي إلي نظام عالمي جديد بأطروحات مختلفة محلية ودولية عما كان سابقاً.

فما هي ملامح النظام العالمي الجديد بعد الكورنا؟

أ. على المستوى المحلي: إعادة النظر في وظائف الدولة

أكدت أزمة كورنا أن التنمية الاجتماعية، لا بد وأن تشكل الاهتمام الأكبر للدول، فبالعودة إلى السيرورة التاريخية لتطور وظيفة الدولة، نجد أن البداية كانت مع الدولة الحارسة والتي تتجلى وظيفتها الأساسية في ضمان الأمن والدفاع عن الوطن، بحيث لا تتدخل في المجال الاقتصادي انطلاقا من مبادئ الفكر الرأسمالي المرتكز على اليات السوق من عرض وطلب، والتي نظر لها ادم سميت، والتي أثبتت فشلها مع النتائج العكسية التي خلفتها على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، ليتم الانتقال إلى الدولة المتدخلة والتي نظر لها جون ماينارد كنيز، والتي أدت إلى حالة من الازدهار الاقتصادي، لكن مع اختلالات اجتماعية عديدة نتيجة تركز رؤوس الأموال في أيدي فئة قليلة، ووصولا إلى الدولة الموجهة الباحثة عن التوزان بين مختلف أدواتها الاقتصادية، الشيء الذي جعلها تراجع تدخلاتها في الميدان الاجتماعي، في تطبيق لإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والنتيجة هي تردي أوضاع قطاع الصحة والتعليم وباقي القطاعات الاجتماعية الأخرى التي تعيش انحسارا في العديد من الدول ومن بينها المغرب.

وعليه وانطلاقا مما سبق ذكره، فيمكن القول أن تطور وظيفة الدولة ارتبط بمدى تحقق العدالة الاجتماعية وتوفير الرفاهية، إلا أنه ومع بداية انتشار وباء كورنا، أصبح هم الدولة الأساسي في كل دول العالم، إنقاد الناس من هذا الوباء ضمانا للحق في الحياة، مع التضحية بالشق الاقتصادي الذي لطالما كان محور تحرك الدولة، بالإضافة إلى بروز أهمية القطاعات الاجتماعية بكل الدول خاصة الصحة والتعليم والشغل، ولهذا يجوز القول أننا أصبحنا مع وظيفة جديدة للدولة والتي يمكن تسميتها بالدولة المنقدة.

ب. على المستوى الدولي: صعود الصين، تراجع أمريكا وأفول التكتلات الإقليمية

لعل أبرز ملامح النظام العالمي الجديد، هو فقدان الولايات المتحدة الأمريكية لدفة قيادة العالم، خاصة وأن مقوماتها الاقتصادية والعسكرية والعلمية الكبرى لم تنفعها لحد اليوم في مجابهة زحف الوباء داخل اراضيها، كما أن العديد من قرارات الإدارة الأمريكية أكدت أن كل اهتماماتها لا تنصب إلا على الشأن الداخلي الأميركي، خاصة مع نزوعات ترامب الفردانية ورغبته في العمل بمعزل عن المجتمع الدولي، الشيء الذي يكشف عجز أمريكا في قيادة العالم خلال هذه الظرفية الصعبة.

وعلى العكس من أمريكا التي فشلت في الحد من انتشار الوباء، أعلنت الصين خلال شهر مارس الماضي، إيقاف زحف الجائحة داخل أراضيها، وسيطرتها على كورنا، بالإضافة إلى عملها على تحويل نجاحها هذا، إلى قصة تسوقها للعالم بأجمعه وتقنعه بأنها لاعب رئيسي في هزيمة كورونا، وهو ما يظهر في المساعدات البشرية والمادية واللوجستية التي تقدمها لدول العالم بأسره، وخاصة تلك الدول التي قربت من رفع الراية البيضاء أمام كورنا، كإيطاليا واسبانيا.

وبالحديث عن إسبانيا وإيطاليا، لابد من الانتباه إلى عجز منظمة الاتحاد الأوربي كتكتل إقليمي في مساعدة هذه الدول، والتي لجأت إلى الصين، بالإضافة إلى اعتماد كل دولة من دول الاتحاد الأوربي على نفسها وإمكانياتها الذاتية في مجابهة جائحة كورنا، دون إغفال انسحاب بريطانيا من هذا الاتحاد سابقا، وهو ما يجعل من سؤال نجاعة التكتلات الإقليمية مطروحا بشدة خلال هذه المرحلة، ويندر بأفول أدوارها مستقبلا.

ختاما يمكن القول أن جائحة كورنا، ستجعل النظام العالمي يعيد النظر في مجموعة من مرتكزاته الحالية، لفائدة مرتكزات أخرى ظهرت أهميتها خلال هذه الظرفية، من قبيل الاستثمارات في قطاع الصحة وتوجيه النصيب الأكبر من ميزانيات الدول ونفقاتها في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى التحول نحو الرقمنة في منظومتي العمل والتعليم والذي أصبح واقعا وأسلوبا تعتمد عليه جل الدول لتجاوز الاثار السلبية لجائحة كورنا، وعليه يمكن اعتبار هذين العنصرين، من المرتكزات الأساسية التي سيتأسس عليها النظام العالمي الجديد، في انتظار كشف المزيد من دروس كورنا.

* باحث في الاداء السياسي والمؤسساتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *