منتدى العمق

لنتضامن ونتآزر في زمن كورونا

أولا: الشعر والواقع.

طالما اعتبر الشعر وسيلة مركزية مفضلة لدى الشعراء الذين عبروا فيه عما يختلج ذواتهم وعواطفهم الداخلية من مشاعر وأحاسيس، كانت تسكنهم وتشغل بالهم، والشعر أو الكلام المنظوم كما نعلم شكل الوجهة الأمثل للأمة العربية في ترجمة واقعها المعيش منذ عصور غابرة، فهو الذي عرف بالكلام الموزون المقفى الدال على المعنى، حسب قدامة بن جعفر، باعتباره كبار نقاد الأدب العربي، إلا أن النقد الأدبي الحديث أضاف إلى هذا التعريف مقوم التخييل الذي يصور الأشياء الغائبة عن الحواس ويمثلها كأنك ترها بالعين، وتلمسها باليد، وتسمع أصواتها بالأذن.

والشعر العربي أشكال وأنواع عدة، فما هو منظوم وفق قيود عمود الشعر يندرج ضمن ما يسمى بالشعر القديم، وما تجاوز هذه القواعد الصارمة وخرقها، فيمكن تصنيفه ضمن ما يسمى بالشعر الحديث الذي لم ينهج طريقة القدماء في الكتابة، فقام بتنويع قوافيه ورويه، بعدما توحدا في القصيدة العمودية.

ثانيا: الشعر والزجل وعلاقتهما بالطرب الغنائي.

في الآونة الأخيرة في المشهد الأدبي المغربي ظهر ما يسمى بالزجل أي الشعر الذي كتب باللغة العامية المغربية (الدارجة)، فهو الكلام الذي تحرر أيضا من وزني القافية والروي. فالزجل أيضا لا يقل أهمية عن الأنواع الشعرية الأدبية، فهو الآخر يعد أهم الوسائط والأدوات الرئيسة التي اشتغل بها الزجال المغربي في تشخيص معاناة الشعب المغربي وهمومه. وارتبط هذا النوع الأدبي بالموسيقى ارتباطا وثيقا، كما توطدت علاقة هذه الأخيرة أيضا بالشعر عامة، ففي هذا المقام يمكننا الاستشهاد بالفنان اللبناني الكبير مرسيل خليفة الشهير ببراعته في الطرب الغنائي عن طريق قيثارة العود التي استطاع بواسطتها تحويل معظم القصائد الشعرية للشاعر الفلسطيني المناضل الكبير “محمود درويش” الذي كان وفيا ومدافعا عن بلده المظلوم الآبي، فقد عبر عن مأساتها وأحزانها وكذا أتراحها، وترجم شعره إلى أغلب اللغات العالمية.

إن البدء بتوضيح هذه العلاقة المتينة التي جمعت الشعر بالموسيقى لم يكن صدفة، بل كان اختيار القصيدة الزجلية للشاعر المغربي سعيد المتوكل الذي اختار لها عنوان ” كورونا ” أبرز الدوافع على ذلك، والتي حولت من قبل الفنان والملحن المغربي نعمان لحلو إلى قصيدة زجلية مغناة، فهو الفنان الذي عهد المغاربة سماع الكثير من معزوفاته الغنائية على شاشات التلفاز، وبعض المواقع الإلكترونية، فهو مطرب وملحن وباحث موسيقي مغربي، ولج عوالم الموسيقى والفنون منذ صباه، بقيثارة مهداة له، والتحق بعد الإرهاصات الأولى له في الفن إلى المعهد الموسيقي بالعاصمة العلمية فاس، لكي يتمكن من صقل موهبته بالممارسة والتجريب وكذا التكوين. فهو الذي حول قصيدة ” كرونا” إلى قصيدة مغناة بطريقته الفنية، مراعيا لسياقات ورودها، وللمعاني التي تحملها في طياتها.

ثالثا: رسائل قصيدة كورونا.

إن عنوان هذه المعزوفة الغنائية يجعل أذهننا تتجه منذ البداية إلى المرض المزمن الخطير، والوباء القاتل الفتاك الذي نزل على المغاربة كالصاعقة، والذي انتشرت أصداؤه عبر العالم بسرعة انتشار النار في الهشيم، حيث أضحت أخباره حديث الساعة والمجالس، وعلى ألسنة الجميع. فقد تداوله المدونون في معظم مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشر عبر كل أنحاء العالم، بعد أن كانت بداياته الأولى في القارة الأسيوية، وبالصين الشعبية خاصة، مرورا بالقارة العجوز أوروبا، ووصولا إلى بلداننا العربية ومن بينها المغرب. الذي اهتم به الكبير والصغير؛ نظر لسرعة انتشاره، ولخطورته وعواقبه الخطيرة.

إن المتأمل في عنوان القصيدة سيلاحظ أنه يدفع بالقارئ بشكل مصرح به منذ البداية إلى موضوعها، الذي كتب له الذيوع والتداول الشاسع في مغربنا منذ منتصف شهر مارس من العام 2020، ولنتساءل فما الذي جعل الشاعر يتخذ من مرض كرورنا المستجد موضوعا لقصيدته، فما هو معلوم أن معظم الكتاب تناولوه في كتاباتهم واهتموا به، فما سبب هذه الحظوة التي حظي بهذا هذا الموضوع؟ وماذا قال الشاعر عنه؟ فهل اجتر كلام السابقين أم أنه أضاف إليه أمور أخرى؟

إن وظيفة نقل الواقع المعيش لم تكن يوما ما مقتصرة على ما هو مكتوب باللغة العربية الفصيحة فقط، بل استطاع الزجل المغربي أن يكون المرآة العاكسة التي نرى فيها وجودنا وحياتنا اليومية كما نعيشها بطرق فنية وجمالية، فهذا النوع من الشعر قريب من كل الشرائح الاجتماعية المغربية التي تتحدث باللغة التي خرجت بها زجلية كورونا إلى حيز الوجود، فحينما يكون الارتباط الوثيق بين اللغة والجمهور المتلقي للنص، فإن القصيدة تكون الوجهة المفضلة لدى كل الأصوات الاجتماعية، وهذا ما يجعنا نؤكد بشكل جلي أن ما جعل هذا النص ينقل إلى الطرب الغنائي المغربي هو الموضوع الذي تطرق إليه، والذي فرض نفسه في المغرب ابتداء من شهر مارس الماضي وصولا إلى الفترة الحالية على وجه التحديد، بالإضافة إلى أن القصيدة مكتوبة باللغة التي يفهمها كل المغاربة باختلاف ألوانهم وأصولهم وثقافاتهم المحلية وتعددها.

إن هذه القصيدة المغناة تشير في مستهل أسطرها الأولى إلى أن فيروس كورونا أصبح مسألة متداولة لدى عامة الناس، وصار موضوعا تتداوله الألسن، وتتحاور في أخباره كل الأعراق والأجناس البشرية عبر بقاع العالم، وعبارة ” كورونا صبحت عنوان” من النص أكبر شاهد على ذلك، ولم يقف سعيد المتوكل عند حدود تذكيرنا بذيوع كورونا في العالم، بل كان رهانه الأساس إقرار التعاون والتآزر الاجتماعيين في هذه اللحظة العسيرة التي تمر بها بلادنا، معتبرا أن طبيعة النفس الإنسانية تتسم بقيم حميدة تتجلى في حب الخير للغير، والرحمة والرأفة التي ينبغي أن تكون سلوكا مفضلا لدى العامة في معاملاتنا اليومية. ولذا فإن هذه المرحلة الصعبة التي نعيشها تحتم علينا أن نظهر شيئا من التعاون والتآخي بيننا حتى تزول المحنة، وتعود المياه إلى مجاريها، ونرجع إلى حالة الثبات والاستقرار النفسي، بعدما أرعبتنا كورونا وأرعدت فرائصنا، وأقضت مضاجعنا. وبالتالي فالقصيدة تدعونا إلى إشاعة الفرح الغامر والتفاؤل في قلوب هؤلاء الذين تسلل الخوف واليأس إلى وجدانهم، وسيطر على قلوبهم، فمهما عظمت المصائب، وكبر شأنها، لا بد أن نتحلى بالصبر، ونتفاءل ونتضامن من أجل سلك طريق ينجينا من عواقب كورونا وأضرارها العديدة التي تصل في غالب الأحيان إلى حذفنا ووضع حد لحياتنا، مالم نحسن التعامل مع الظرف الأصعب والقاهر، الذي أعجز الدول التي تشكل القوى التقليدية العظمى ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، وهذا دليل أبرز على أن عواقب الفيروس ستكون عظيمة في مدننا ودولنا التي لم تقترب من التطور بعد. إن ما يؤمن به الزجال سعيد المتوكل من قيم فضيلة ونبيلة شكلت القلب النابض في تراثنا العربي، ابتداء بالقران الكريم والسنة النبوية، ووصولا إلى الشعر العربي القديم، إن ديوان الإمام علي بن أبي طالب، يحمل في ثناياه أرقى مقاصد الإسلام، ولعل قصيدته الموسومة بعنوان “صن النفس” خير مثال على ذلك، يقول فيها:

ولا خير في ود امرئ متلون إذا الريح مالت مال حيث تميل
جواد إذا استغنيت عن أخذ ماله وعند احتمال الفقر عنك بخيل
فما أكثر الإخوان حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل
(ديوان الإمام علي، جمع وترتيب عبد العزيز الكرم، ص: 175).

إن الرسائل التي يبعثها المتوكل في هذه القصيدة إلى الإنسان العربي، والمغربي خاصة، والبشرية جمعاء، دلت عليها سطور شعرية نستحضر بعضها على لسان ملحنها الفنان نعمان لحلو قائلا:

كورونا صبحت عنوان
وقت الشدة فينا طيبة
فينا معدن لازم يبان
واليوم كرونا
درس عميق
بعد الضيق
الفرح يفيق
يرسم طريق فكل مكان …

ختاما قصيدة كورونا نموذج شعري زجلي مغربي أصيل، تلقاه المغاربة بفضل غنائه ولحنه من قبل فنان طالما أطربهم وأمتعهم في مناسبات عديدة، اقتربت من موضوع كان انشغل به الكتاب من حيث التناول، والقصيدة أيضا شكلت فرصة سانحة لتوعية وتحسيس الشعب المغربي بفضائل الأخلاق التي تمثل صورة الإنسان المثال في زمن كورونا.

* أستاذ التعليم الثانوي الإعدادي لمادة اللغة العربية، مديرية الصويرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *