منتدى العمق

ميعاد صبور

بِلباسهِ الكلاَسِّيكي الأسْوَدِ الْمُسْتَعَارِ مِنْ صَدِيقِهِ وَحِذَائِه الْقَدِيمِ الْمُخَرَّز، يَقِفُ “صَبُور” وقفتَه الثابتةَ منتظرًا قدومَ الحافلةِ التي سَتَنْقُلُهُ إِلَى ميعادِ مُقَابَلةِ الْعَمَلِ مَعَ السّاعةِ الثّانية زَوَالًا، ذَكَّرتْهُ وَقْفَتُهُ هاته بسنواتِ الدِّرَاسَةِ التي خَلَتْ، وشَدّهُ حَنِينٌ حُلْوُ الشّعُورِ لِأَيّام ٍلَا يَراهَا إِلا جَمِيلَةً بِكُلِّ مَا فِيهَا، فَكَمْ وَقَفَ فِي هَذِهِ المحَطَّةِ مُنْتَظِرًا الحَافِلَةَ أَيّام َدِرَاسَتِه الْجَامِعِيَّة، حَتَى أَنّك لَو سَألتَ هَذا الطّريق المعرفي عَنْ هَذَا الغريبِ فِي أطوَارِه لَأَجَابَك عَنْهُ بِسُرعةٍ “أَيْ عَرَفْتُهُ ! إِنَّهُ صَبُور”، فَسَنَواتُ الانْتِظَارِ تَشْهَدُ لَهُ بِالصَّبْرِ والكِفَاحِ أَمَامَ هَذِه المحَطّة المليئة خَرْبَشَاتِ أَسْمَاءٍ وحُرُوف فُرُقٍ كُرَوِيّة، تَعْبِيرًا مِنْ وَاضِعِيهَا عَنْ مَدَى الشّوقِ والحُبِّ الذِي اعْتَرَاهُمْ لَحْظَةَ خَطِّهِمْ تِلْكَ الخَرْبَشَاتِ، وَمَتَى كَانَ دليل الإخلاص في الحبِ تخريبُ وتشويهُ الفضاءِ العامِّ بنحْتِ اسْمِ المحبُوبِ فِي المُمْتَلَكَات العامةِ؟ بلْ إِنّ دَلِيلَهُ نَحْتُ اسْمِ الْمَعْشُوقِ فِي القَلْبِ لِيَفِضَ مِدَادًا إِبْدَاعِيًا رَاقِيًا تَتَذَوَّقُهُ القُلُوبُ والنُّفُوسُ العَاشِقَةُ لِلْجَمَالِ،

ثُلةُ مِنَ النّاسِ بِجَانِبِهِ أَرْهَقَهُمُ الانتظَارُ، وهُوَ مَعَ ذَلكَ يَقِفُ مُبْتَسِمًا لَا تَظْهَرُ عَلَيْهِ آثَارُ القلقِ رغمَ إِقْبَالِهِ على مَوعدٍ حاسمٍ، والزمنُ يداهِمُهُ، موعدٌ لَمْ يَخْتَرْ لَهُ الحافلةَ حبًا كَوَسيلةٍ، بَلْ اخْتَارَهَا لَهُ كرهًا، بَعدَ ما اعْترَاهُ الحَرَجُ فِي طَلَبِ نُقُودِ “التاكسي” مِنْ عندِ أمهِ، إذ أنه صَارَ يُحِسُّ بِنَفْسِهِ ثَقِيلاً عَلَى أَهْلِهِ بَعدَ أنْ تجاوزَ الخامسةَ والعشرين دُونَ عملٍ ولا دخلٍ، وهو يرى أهلهُ مدقعينَ في الفقرِ.

مرّ وقتٌ طويلٌ والحافلةُ لمْ تأتِ بعدُ، أخرجَ هاتفَهُ من جَيبِيهِ الأيمنِ لِيجِدَ الساعةَ تشيرُ إلى الواحدَةِ والرُّبع، وهو وقت يسَعهُ ليصل إلى ميعاده إن جَاءَتْ الحافلةُ في هذه اللحظَاتِ.

ابتسم ابتسامة خفيفة في وجه طفل تحمله أمه على ظهرها، فبادله إيها الصبي بشفتيه الرقيقتين ابتسامة لؤلؤية أعادت له الهدوء والثبات، فاستنشق نفسا مطولا، ثم زفر بهدوء، ورفع بصره تلقاء الطريق ليبصر من بعيدٍ تلكَ البنايةَ الصفيحةَ ذاتَ الأربعِ عجلاتٍ قادمةً تعكز رويدا رويدا نحوه، فاستبشر خيرا بقدومها.

صَعدَ من البابِ الخلْفِيّ دونَ أن يتناول التذكرة، شعر بخوف يعتريه وهو الذي لطالما كان حريصا على احترام القانون، لم يكن يتوقع أن يجد نفسه يوما صاعدا الحافلة بلا أداء ثمن التذكرة، أحس بتأنيب الضمير وفكر في النزول لما رأى الباب مفتوحا في أحد المحطات، ثم تردد وتداخلت أحاسيسه فتراجع عن موقفه بعد أن قمع الضمير المؤنب داخله، ثم تشبت بأحد الأعمدة الحديدة في خلف الحافلة مكملا طريقه نحو موعده.

الساعة تشير للثانية إلا ربع، ولم يتبق على وصول صبور إلى وجهته سوى محطتين فقط، اقترب من الباب مستعدا للنزول عند وصول المحطة، اضطربت عواطفه فجأة وغمره خوف تسارعت معه دقات قلبه ولم يعرف سبب وجيها لذلك، ربما لأنه مقبل على موعد مهم قد يغير حياته ويعيد له كرامة النفس التي أذلها الفقر والاتكال على الآخرين، لا يريد أن يُضِيعَ هذه الفرصةَ أيضًا كمَا أضاعَ قَبْلَهَا فُرصا ،تشبت بالعمود الحديدي بقوة وقال في نفسه:

_هذه المرة لن أعود خاوي الوفاض.

شرد في ذهنه وفي توقعات الأسئلة التي يمكن أن تطرحها اللجنة عليه في المقابلة ولم ينتبه لأربعة أشخاص صعدوا من الباب يقول له أحدهم:

_الورقة من فضلك؟

أصيب صبور بصدمة قوية فخارت معها قواه كلها وتلجم لسانه، إنهم المراقبون ،لم يدر ماذا سيقولهم، كيف سيقنعهم بأنه طوال حياته التي خلت لم يصعد الحافلة بلا أداء؟ وكيف سيصدقون أن شخصا أنيقا كهذا لا يملك ثمن تذكرة؟ ابتلع صبور ريقه بصعوبة وقال:

لا أملك ورقة؟

فنظر المراقبون إليه وإلى لباسه ثم ضحكوا ضحكا سخريا وقال أحدهم؟

أتستهزأ بنا، هيا أيها الأنيق أخرج الورقة أو أخرج ما لديك من أموال، سوف تؤدي ثمن تذكرة الغرامة وقدرها 35 درهما.

لاحظ صبور أن الحافلة وصلت إلى محطته التي يجب أن ينزل فيه فاندفع نحو الباب، ولكن أيدي المراقبين منعته وقال له أحدهم؟

أ تحاول الهرب؟ لم نتوقع سلوكا كهذا من شخص ظريف مثلك؟

قال صبور:

أرجوكم دعوني أنزل لدي موعد مقابلة في هذا المكان بعد خمس دقائق، أرجوكم ليس لدي نقود.

قال أحد المراقبين:

تريد أن تؤثر فينا بكلامك هذا ؟

ثم ضخم من صوته قائلا:

اسمع يا هذا ! لن تنزل من هنا حتى تؤدي ثمن تذكرة الغرامة، أو سنأخذك إلى مخفر الشرطة.

تَحَرَّكَت الحْافِلَةُ، ودارتْ معها الدنيا بأكملها في رأس صبور كما تحركت معها مشاعر الغضب في نفسيته وهو يرى حلمه يضيع أمام عينيه محاصرا بأربعة وحوش، نظر نظرة إلى الذي كلمه آخرا، ثم جمع أصابع يمينه بقوة وحوّل غضبه بأكملهِ إلى يمناهُ، وصَوَّبَ لكمة قوية نحو أنف ذلك المراقب الذي استفزه، لكمةٌ سَقَطَ على إثْرِهَا المراقبُ مغمًى عليهِ.

تكلفَ المراقبونَ الثلاثةُ بِضَربِ صَبُور ضَرباً مُرْبِحًا، وَحجتهم في ذلك أمام الجميعِ الدفاعُ عنِ النفسِ، فزع لهول المشهد جميع الركاب فتوقفت الحافلة منتظرة سيارتين؛ سَيّارَةَ إسعافٍ وسَيّارةَ شُرْطَة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *