وجهة نظر

ما بعد كورونا: نحو مغرب رقمي

يعتبر مفهوم المدينة الذكية حلا لا مناص منه ليس لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية و سياسية مستدامة وشاملة و تجويد أداء الخدمات و توحيدها فحسب بل أيضًا لمواجهة تحديات المستقبل وتوفير سرعة وكفاءة لتلبية أفضل ودون تمييز لاحتياجات وتطلعات المواطنين كما تشكل الأداة الرقمية سبيلا لرفع تحديات متعددة ومعقدة كتحسين إدارة الموارد وتسهيل وصول المواطنين إلى خدمات آمنة وذات جودة في جميع القطاعات كالتعليم والصحة والإسكان والنقل وغيرها بما في ذلك التجارة من خلال تشجيع الأشخاص على شراء وبيع الأشياء عن بعد كما تسهم في الحد من استهلاك المياه والطاقة بالإضافة إلى الحد من التلوث الحضري و دمقرطة الحياة السياسية و إحباط الجريمة و الحفاظ على النظام العام.

علاوة على ذلك، تتيح الحلول الرقمية (أجهزة الاستشعار اللاسلكية الذكية، انترنت الأشياء، العدادات الذكية، مراكز التحكم عن بعد، تطبيقات الهاتف الخلوي، المستشعراتcapteurs) للسكان فرصة المشاركة بفعالية في إدارة الشؤون المحلية وتقديم آرائهم وشكاواهم وانتقاداتهم للحصول على خدمات عالية الجودة عبر عدد من التطبيقات الذكية التي يمكن تنزيلها بسهولة على الهواتف المحمولة و التي تجعل من السهل استشارة و إبداء الآراء حول جودة الخدمات كالحافلات والقطارات وحركة المرور و المتاجر والمطاعم والفنادق ومراكز التسوق و المستشفيات وغيرها من المرافق العامة و الخاصة. كما تتيح منصة المدينة الذكية إمكانية مراقبة الأحياء والشرايين الرئيسية والأماكن العامة بشكل مستمر و تمكين المباني العامة والخاصة من تكييف استهلاك المياه والكهرباء بالإضافة إلى تشكيل وتعديل إشارات المرور وفقًا لحركة السير والازدحام.

بالمقابل، لا يمكن ضمان نجاح تنزيل منظومة المدينة الذكية إلا بناءً على التزام مبدأ الشفافية الكامل بالعمل على تنظيف المناخ الاقتصادي والاجتماعي و السياسي العام وتحسين جودة الاتصال وإدارة البيانات وضمان أمن الموارد المالية والإدارية وقبل كل شيء ضمان شفافية المعاملات و حماية الخصوصية.

وجوه و مجالات المدينة الذكية

تندرج الإدارة الذكية في قلب اهتمامات المنصة الرقمية التي تهدف إلى تكييف موارد المؤسسات مع احتياجات الساكنة من خلال إدارة قوية قادرة على التخطيط والتحكم في جميع الاحتياجات اللوجيستية بفضل تطبيقات مثل Oracle ERP أو Cloud-Solution أو Microsoft Dynamics AX تمكن الجهات الفاعلة العامة والخاصة من توقع أحسن للمخاطر والفرص والاستجابة بشكل أفضل للتحديات التي تواجه المدينة لا سيما قطاع الأمن حيث توفر المنصة الرقمية العديد من الحلول التكنولوجية للحد من الجريمة وتقليص وقت تدخل الشرطة من خلال استخدام أجهزة الاستشعار وأزرار التنبيه والكاميرات لتحديد نقاط التدخل حيث يتم تثبيت كاميرات المراقبة على مستوى الأحياء لضمان سلامة المستخدم و مراقبة الخدمات عن بعد. على سبيل المثال، انتقلت مدينة ميدلن الكولومبية في غضون 12 عامًا من أحد أكثر المدن إجرامية في العالم إلى مدينة صالحة للعيش بعدما استخدمت النقل الذكي لضمان فك عزلة الأحياء المهمشة. في نفس السياق، و في غضون خمس سنوات، تمكنت مدينة مكسيكو من خفض معدل الجريمة بنسبة 32 ٪ بعدما قامت بتركيب 15000 كاميرا لتعامل أسرع مع حالات العنف المسجلة حيث تم تقليص مدة تدخل قوات الأمن من 15 دقيقة في عام 2009 إلى 4 دقائق اليوم.

في نفس السياق، تعتبر مدينة برشلونة رائدة على مستوى استخدام التقنيات الرقمية في تدبير المياه و النفايات حيث أنه في منطقة 22@ التي تتواجد بقلب المدينة يتم قياس وتحليل المياه وسرعتها على مسافة 4600 كيلومتر من الأنابيب من أجل تعقب إمدادات المياه او نقصانها بشكل أفضل والتخلص من مياه الصرف الصحي والتسربات كما قامت المدينة بتثبيت مستشعرات مستوى على حوالي 40 صندوق نفايات لتحسين عملية التجميع النفايات المنزلية و الصناعية و استخدامها لأداء وظائف أخرى مثل إدارة الإضاءة العامة و إنتاج الطاقة.

كذلك يعتبر السكن الذكي أحد أهم مرتكزات منظومة المدينة الذكية حيث ظهرت العديد من التقنيات والعمليات الهادفة ليس فقط لتحسين ظروف السكن أو ضمان سلامة وراحة القاطنين ولكن أيضًا للحد من استهلاك المياه والكهرباء والطاقة حيث يمكن خلال جهاز لوحي أو هاتف خلوي مراقبة وإدارة وضبط الإضاءة وأنظمة التدفئة كما يمكن من خلالها الحصول على خدمات أخرى على غرار قطاع الصحة حيث يمكن للموظفين الطبيين تزويد المرضى برصد آني لحالات المرض إما للوقاية أو تحديد المواعيد أو التشخيص أو العلاج.

من بين المجالات التي يشملها الحل الرقمي أيضا هناك مجال النقل و التنقل حيث يتمثل التحدي الرئيسي في تنظيم عملية مرور و توقف العربات و تقليل التلوث. في هذا الجانب و لأجل تقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، تشكل السيارة الذكية حلا واعدا بفضل قدرتها على الشحن الكهربائي الذاتي كما أنها تضمن قيادة أسهل للسائقين من خلالها توفرها على أنظمة ذكية للتعرف لتحديد الطرق وأماكن التوقف و تجنب التصادم و الرؤية الليلية كما لا تعمل هذه التقنيات على تحسين الأداء والراحة والأمان في القيادة وتقليل الاختناقات المرورية وحوادث الطرق فحسب بل و تستطيع تكييف سرعتها وفقًا لخصائص الطريق والعثور على أقصر طريق و استشعار مرور الراجلين و احترام المسافة مع المركبات الأخرى بل و حتى اختيار المسار حسب حركة المرور أو الطقس أو مستوى التلوث.

علاقة بالأمر، بينت دراسة أجريت في لندن أن الاختناق المروري يؤدي إلى استهلاك إضافي لما يزيد عن 22 مليون لتر من الوقود ويولد 58000 طن من الغازات الضارة الأمر الذي دفع مجلس المدينة إلى تبني عدد من الإجراءات لتصحيح الوضع كان أولها ترشيد اللافتات حيث أنه في حالة حركة المرور الكثيفة يتم إجبار السائقين على اتباع بعضهم البعض في خطوط مستقيمة و ذلك بغية ضمان استخدام كلي للطريق ما يمكن من تقليل طول خط الانتظار بمقدار النصف تقريبًا.

معيقات تنزيل منظومة المدينة الذكية

هكذا و بالرغم من جملة الامتيازات التي يتيحها الحل الرقمي إلا أنه لا يخلو كغيره من الحلول و الوسائل من معيقات و نواقص. على رأس المخاوف التي قد تحول دون تسريع وتيرة تنزيل منصة المدينة الذكية هو تخوف الفاعلين من فقدانهم لجزء من صلاحيتهم و سلطاتهم من خلال توسيع مجال حرية الأفراد ما قد يؤدي ايضا، في اعتبارهم، إلى عدد من المشاكل الاجتماعية الاقتصادية والسياسية الخطيرة. غير أن أكبر عائق يحول دون تنزيل سليم منظومة المدينة الذكية الرقمية يبقى هو حجم التكلفة العالية للغاية التي يتطلبها المشروع خاصة في حالة غياب دراسات جدوى دقيقة حيث يتطلب تنزيل المشروع الرقمي استثمارًا هائلاً من حيث الموارد المالية وكذلك الموارد البشرية والاجتماعية والبنية التحتية الرقمية.

بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يتم انتقاد القطاع الرقمي لإسهامه في تقليص مناصب الشغل ما يؤدي في أحيان كثيرة إلى إحداث تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة من قبيل توسيع حدة الانقسامات والتفاوتات خاصة في ظل غياب مراصد تعمل على رصد وتحديد الاحتياجات المتعلقة بالسلوك الفردي والجماعي واتخاذ القرارات اللازمة.

كما تشكل مقاومة التغيير والتكنولوجيا عائقا آخر أمام تنزيل المنصة الرقمية باعتبار المقاومة النفسية التي قد تتولد عند المتضررين المحتملين. على سبيل المثال، في العاصمة الفرنسية ووجهت المبادرة التي قادتها شركة أوبر لإدخال نظام رقمي مبتكر يعمل على نقل عمليات التسليم والخدمات اللوجيستية إلى ضاحية المدينة باحتجاجات عنيفة من قبيل سائقي سيارات الأجرة الذين قاموا بقطع الطرق العامة.

وعليه يجب أن يوضع في الاعتبار أن نجاعة الاستراتيجيات والوسائل المعبأة لنجاح تنزيل منظومة المدينة الذكية تقوم أساسا على مبدأ كفاءة وشفافية إجراءات التدبير و التمويل والمراقبة الدائمة و الفعالة لتقدم المشاريع خاصة فيما يتعلق بالعلاقة التكلفة / الجودة وتقليص المخاطر التي يمكن أن تنطوي عليها عملية التنزيل.

*عادل متقي: أستاذ، باحث بجامعة نيس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *