وجهة نظر

ملاحظات حول تعزيز اليقظة والحكامة بالمغرب

أي مستقبل لمقومات “الحكامة وتدبير المخاطر المستجدة” ببلادنا؟ وما مدى جاهزية “النموذج المغربي للإصلاح” للتأقلم مع البيئة الدولية الجديدة؟ أسئلة تتطلب التفكير بعد التداعيات التي خلفتها الازمة الوبائية كوفيد-19 على المستويين الدولي والوطني، خاصة وان طبيعة المرحلة الانتقالية التي يشهدها نسق العلاقات الدولية وإعادة ترتيب توازناتها، تعلن عن انهيار العديد من قيم ومحددات المجتمع الدولي وبداية تشكّل ملامح “نظام دولي جديد”.

فمنذ اعلان كوفيد-19 جائحة عالمية من قبل منظمة الصحة العالمية مع الزام الدول بمواجهته بكل صرامة عبر اتخاذ تدابير للحد من انتشاره واخذ الحيطة والحذر، عرف العالم حالة استنفار قصوى من اجل حماية ارواح مواطنيه وتوفير الخدمات الطبية اللازمة. كما عرفت توقعات نمو الاقتصاد العالمي اقوى تراجع لها منذ ازمة الكساد لسنة 1929، فقد توقعت منظمة الامم المتحدة ان يسجل الاقتصاد العالمي اقل من 2% لسنة 2020 مع احتمال هبوط هذه النسبة بسبب حالة عدم اليقين الحالية، كما اتجهت ابرز المنظمات الدولية والاقليمية لمراجعة توقعاتها لنسب نمو الاقتصاد العالمي لهذه السنة، ودعت الى تبني سيناريوهات اكثر واقعية لتقييم هذا التهديد الوبائي، خاصة مع عدم التوصل حتى الان لاكتشاف أمصال لعلاجه.

ويعزى هذا الانخفاض في نمو الاقتصاد العالمي، الى النزول الاضطراري الذي عرفته الاقطاب الاقتصادية الكبرى (و.م.أ؛ الصين، منطقة اليورو؛ اليابان؛ ..).

هذا ويتوقع ان تطال تداعيات وباء كورونا جل الدول العربية والمغاربية في عديد المجالات (المالية العامة؛ الدين العام؛ القطاع النقدي والمصرفي؛ قطاع الخدمات؛ القطاعات الانتاجية…)، وذلك بحكم الارتباط القوي بين اقتصادياتها بمنظومة الاقتصاد العالمي وفي مقدمتها الاتحاد الاوروبي والصين والولايات المتحدة الامريكية.

المغرب بدوره لم يبقى منعزلا عن الامتدادات التي افرزتها هذه الافة، حيث سارع الى اتخاذ جملة من الاجراءات المهمة والاستباقية بقيادة عاهل البلاد ( يتعلق الامر بإعلان حالة الطوارئ؛ إحداث صندوق تدبير كورونا؛ تعبئة القطاعين الصحي والامني؛ احداث لجنة لليقظة الاقتصادية؛ تموين الاسواق الداخلية بالسلع الاساسية؛ اقرار التعليم عن بعد؛ اصدار مجموعة من النصوص القانونية والتنظيمية لتنظيم حركة التجول؛ ….)، والتي اسفرت في مجملها عن تجنيب بلادنا الى حد اللحظة السيناريوهات التي تتخبط فيها كبريات الاقتصاديات العالمية. الا ان تداعيات وباء كورونا ببلادنا كشفت الغطاء عن جملة من الصعوبات التي تعتري تدبير بعض القطاعات الحيوية، خصوصا وان جائحة كوفيد-19 ارخت بظلالها على مجمل مناحي الحياة الوطنية. وهو ما من شأنه ان يعيد النقاش حول الحكامة ومستقبل التدبير العمومي الى الواجهة.

تسعى هذه الورقة إلى تقديم تحليل تركيبي لسبل تعزيز اليقظة المؤسسية ببلادنا، مع استشراف سريع لآفاق حكامة السياسات العمومية، خاصة وان الازمة (كوفيد-19) صادفت فترة النقاش العمومي الموسع حول النموذج التنموي الجديد.

لكل ذلك فإنه لضمان المناعة الداخلية للمملكة والتحكم بتنبؤات مستقبل متقلب، يتطلب الامر من وجهة نظر خاصة تكريس ثلاث منعطفات أساسية على الاقل، ترتبط بشكل خاص بتحصين المكانة الدولية للمملكة وتنويع العرض الدبلوماسي؛ تقوية قنوات الوساطة والمشاركة المواطنة، مع الحرص على تعزيز حكامة المرفق العام والتزود بنظام لتدبير الأزمات.

تعزيز المكانة الدولية للمملكة وتنويع العرض الدبلوماسي

يبدو ان هناك اقتناعا راسخا يقود المملكة المغربية منذ بداية العهد الجديد نحو تعميق انخراطها في خضم التفاعلات الدولية التي مافتئت تتزايد باستمرار، لذلك فقد راهن المغرب على تكييف تدريجي لهياكله المؤسسية والاقتصادية والاجتماعية وفقا لمعايير انتاج الثروة ولمنظومة القيم التي غذت كونية بفعل انتصار العولمة.

حيث ان مواصلة المغرب لتفاعله الدولي، رهين بالدفاع بشكل كامل عن مصالحه في الخارج وتعزيز الروابط التقليدية للمملكة وابرام شراكات استراتيجية والانخراط في القضايا العالمية الجديدة (التغييرات المناخية؛ اهداف الالفية للتنمية والامن؛ …)، مع الحرص على تملك جملة المفاهيم التدبيرية المعاصرة من قبيل (الحزم؛ البراغماتية؛ التوقع؛ الواقعية؛ الاعتدال؛ الصرامة؛ المقاربة التشاركية؛ المنظور الاستراتيجي ثم التنوع؛ …) من بين مفاهيم اخرى، كعوامل مهيكلة للنموذج العملي الجديد الذي من شأنه تصنيف المغرب ضمن محيطه الدولي كقوة جاذبة.

ثم عبر الدعوة الى تنويع الشراكات الاقتصادية وجعل المغرب الشريك النموذجي لكل البلدان وترسيخ المكانة الدولية للمغرب كقطب جهوي رائد وعامل سلم واستقرار في محيطه وفضاءاته المغاربية والعربية والاسلامية والاورومتوسطية والافريقية والاميريكية والاستفادة القصوي من نظام العوملة والاندماج في الاقتصاد الشمولي والتقليل من اثارهما السلبية على تنميتنا الداخلية واعطاء العلاقات الخارجية نفسا جديدا.

وفي خضم تداعيات كورونا على الاقتصاد العالمي عبر الاستهداف المباشر لسلسلتي العرض والطلب، فلا شك ان الاقتصاد المغربي كذلك سوف يتأثر على غرار الاقتصاديات العربية بحكم العلاقات التجارية القوية التي تربطها بدول العالم وفي مقدمتها الاتحاد الاوروبي والصين والولايات المتحدة الامريكية، وبالتالي فإن المملكة ملزمة كخطوة أولى بإعادة ترتيب وملاءمة ادواتها الدبلوماسية لمواكبة التحولات المتسارعة والفجائية التي تطبع حركية العالم.

تقوية قنوات الوساطة والمشاركة المواطنة

بالنظر للتقدم المعياري لمنظومة التمثيل والوساطة ببلادنا، اصبحت هذه الهيئات (الحزبية والمدنية) ملزمة بلعب ادوار طلائعية في مجالات الامن و التنمية. حيث بدا واضحا الدور المتزايد لقنوات الوساطة والمواطنة، في تدبير مثل هكذا ظروف استثنائية في مجموعة من التجارب الديمقراطية الغربية.

هكذا وبعيدا عن حرارة الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حول وباء كوفيد-19، يمكن المراهنة بكون يوميات الازمة الوبائية الراهنة سوف تشكل بلا شك فرصة لتعميق الوعي حول قضايا أساسية لطالما استأثرت باهتمام النقاش العمومي، ترتبط بشكل خاص بأسس تدبير العلاقة بين الدولة وجمهور المواطنين وفي مقدمتها اسئلة التمثيل والوساطة والمشاركة.

فالضرورة الحيوية لتواجد قنوات الوساطة كتشكيلات للهيكلة الإجتماعية التي تعمل على قيادة وتوجيه الأفكار والإمكانيات توجيها مؤسساتيا منظما بما يحقق إشباع الغايات الاجتماعية والإقتصادية، تتوقف على قدرة إنجاز مهام التأطير والوساطة والتكوين وتلقين المواطنين قيم ومبادئ معاصرة داخل عالم تتجاذبه ردات الفعل والتفاعل، حيث أصبح يشكل الفرد مادتها الأولى والأخيرة، إما بخلق جنيني لثقافة جديدة لديه، أو نقلها إليه أو تغييرها.

من هنا فالهيئات الحزبية وفعاليات المجتمع المدني مطالبة بملء الفجوة التي يمكن ان تظهر بين اهداف السياسة العامة وبين نتائج الفعل العمومي، والعمل على تعبئة المجتمع وإعداده للتملك الجماعي لبرنامج عمل مجتمعي مندمج، حريص على بلورة أجندات تجيب على أسئلة المواطن وقضاياه الأساسية.

حكامة المرفق العام والتزود بنظام لتدبير الازمات

شكل تخليق وحكامة المرفق العام احد مرتكزات التعديل الدستوري الاخير واحد رهانات الرؤية الملكية للاصلاح، عبر الدعوة الى تحويل الإدارة إلى أداة فعالة في تطوير السياسات العمومية في مختلف المجالات، مع ما يقتضيه الأمر من مراجعة أساليب عملها، وطرق تدبير الموارد العمومية، اعتبارا لكون قيمة وفعالية الإدارات اليوم، تقاس بمدى إسهامها في تعزيز تنافسية بلدانها، لخوض المعركة الشرسة لاستقطاب الاستثمارات والكفاءات ورؤوس الأموال، وارتباطا أيضا، بما تفتحه من آفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتوفير فرص الشغل، خصوصا لفائدة الشباب.

ما يستلزم كذلك التفكير في جعل المرفق العام صمام أمان لمواجهة مستقبل حافل بالمتغيرات برصيد تدبيري أكثر نجاعة، عبر تعبئة قواعد ومبادئ ضابطة من قبيل (مبدأ المساواة؛ مبدأ الإنصاف في تغطية التراب الوطني؛ مبدأ الإستمرارية في تقديم الخدمات؛ مبدأ الجودة والتغيير؛ مبدأ الشفافية والنزاهة؛ مبدأ الولوجية).

عموما، وبحكم انتماء المغرب إلى خانة الدول العربية والمغاربية التي تواجه قيودا متعددة على مستوى الممارسة الجيدة للحكامة الاستراتيجية لبلدانها، بفعل غياب رؤية استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي الهشاشة الاقتصادية وهيمنة ثقافة الريع؛ التفاوتات الاجتماعية الناجمة عن سوء توزيع الثروة؛ غياب طبقة وسطى قوية؛ الافتقار الى ثقافة لتقييم السياسات وضعف نظام المساءلة وتقديم الحساب والشفافية وكذا نظام للمراقبة الداخلية للمالية العامة.

فإنه (المغرب) يبقى مطالبا اكثر من اي وقت مضى بالاتجاه نحو تعزيز حكامة جهازه المؤسساتي، عبر اعتماد التفكير الاستراتيجي وتدعيم المسؤولية المجتمعية، والعمل على اعداد برنامج عمل جماعي/تشاركي ومحكم على المدى المتوسط والبعيد، له وعي واضح بالمستقبل ومزود بنظام لتقييم المخاطر. بهدف تلبية الحاجيات الإجتماعية، التي تتزايد باستمرار، وتغدو أكثر إلحاحا، للحفاظ على التماسك الاجتماعي، وبالتالي على الاستقرار السياسي والمؤسساتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *