وجهة نظر

كورونا وأخواتها

كشفت جائحة كورونا كوفيد 19 عن جملة من المظاهر الاجتماعية، التي يمكن للباحث المتخصص أن يخضعها لعينه الفاحصة فيستجلي من ورائها النزوع الإنساني في مثل هذه الظروف، وما يحكم هذا النزوع من دوافع اجتماعية أو نفسية أو دينية… هو نزوع يشمل الكائن البشري كيفما كان وأينما كان، وكأن الأمر راجع إلى اللاشعور البشري الجمعي الذي يكون مسوغ الأفعال و ردود الأفعال، كلما وجد الإنسان نفسه أمام المجهول الذي لا يفهمه أو لا يستطيع تأويله، أو وجها لوجه مع جبروت الطبيعة الذي يهدده، ويعيده مجددا إلى الإحساس بضآلته والبحث عن حقيقة الذات وسر الوجود.

لعل من أبرز المظاهر التي عايناها في ظروف هذه الجائحة وما استلزمته من تباعد اجتماعي وحجر صحي، تنامي بعض القيم، بل تضخمها أحيانا لدرجة قد يصبح التمسك بالقيمة تهديدا لها في آن، وغير خاف على الملاحظ روح التضامن التي شاعت في ظل هذه الظروف، سواء أكان التضامن فعلا فرديا أم جماعيا، وهو تضامن مشفوع بروح المبادرة والتطوع. وإذا كانت هذه القيمة محمودة ومستحبة ومندوب إليها، فإن ما ينبغي الانتباه إليه هو أنه في غياب التأطير الحقيقي لها، تصبح ضربا من الفوضى والعشوائية التي قد تعصف بالقيمة نفسها، وتجعل نتائجها المرجوة عكسية تماما، فنحن عاينا مثلا إقبال المجتمع المغربي بكل أطيافه وشرائحه ينخرط في الفعل التضامني، الذي كان له أثره الإيجابي في نفوس الجميع، ولكن هذا الملمح الجميل لا ينبغي أن يخفي خطرا داهما متواريا في بعض المبادرات الفردية غير المضبوطة، ومثالها ما شهدناه أكثر من مرة من بعض المتطوعين الذين كاد تحمسهم الزائد في غياب التأطير أن يعصف بنتائج المجهودات التي تبدلها الجهات المختصة والسلطات المخول لها السهر على سريان مفعول قيمة اجتماعية كهذه، زد على ذلك بعض هؤلاء الذين اخترقوا الخصوصيات الاجتماعية لبعض الأسر التي انضاف إلى إحساسها بمذلة الحاجة والفاقة مذلة أخرى وهي مذلة الفضح والتعرية أمام الملأ بالفيديوهات والصور.

من بين المظاهر الأخرى الإيجابية كذلك روح الانضباط المتمثلة في استجابة جل المغاربة للتعليمات والتوجيهات التي تقدمها السلطات المعنية بذلك، وهو مؤشر حقيقي على الانخراط الواعي ضمن الصالح العام، يمكن أن يستثمر لاحقا في البناء الحقيقي للوطن الذي نستشرفه بعد انجلاء الغمرة، وزوال الغمة، ولكن في مقابل هذا الانضباط شهدنا انفلاتا مفزعا لبعض الفئات التي غالبا ما حركها الجهل في شتى صوره، الجهل بالقانون، الجهل بحقيقة الموقف وخطورته، الجهل بالدين…

نستطيع أن نقول إن مجابهة هذا الوباء قد كشفت النقاب عن العديد من القيم الإيجابية التي ينبغي تنقيتها مما علق بها من شوائب التهور والجهل والتعنت أحيانا، ولكن في مقابل ذلك أبانت اللحظة الراهنة التي نجتازها أن الخصم ليس واحدا وأن كورونا الجائحة لا تحاربنا وحيدة معزولة وعزلاء، وإنما لها أخواتها اللواتي تساندنها وتعمقن تأثيرها وفتكها بالمجتمع، وليست أخواتها سوى الجهل الذي مازال يضرب بأطنابه على العديد من أبناء هذا الوطن، ويخيم على قدر غير يسير من العقول والنفوس، والجهل هنا لا يختزل في مجرد انتفاء المعرفة بالقراءة والكتابة، فذلك لا يعدو أن يكون أمية قرائية أو حروفية، وإنما المقصود التحجر أحيانا وعدم القدرة على تطوير الذات ونقدها ، وإعادة النظر في قناعاتها أو بعض ما تعتقد فيه المبدأ الذي لا ينبغي الحياد عنه أو المساس به، أو الرغبة في كل ذلك.

ومن أخوات كورونا كذلك الجشع الذي تجسد في ما أقبلت عليه بعض الجهات والأفراد من الاستفادة من الوضع، واشرأبت أعناقها وتطاولت أيديها لتنال بعض ما تنال من صندوق كورونا وكأن الأمر غنيمة تخشى تفويت فرصة استخلاص نصيبها منها، بل لقد طالعنا بأسف بالغ وحزن عميق وامتعاض كبير، بعض هؤلاء الذين أمضوا حياتهم يمتصون دماء الشعب ويستنزفون جيوب أبنائه، لا يتورعون في هذه الفترة العصيبة عن أن يتلفعوا بأثواب الحاجة والعسرة، ويلتمسوا من المسؤولين أن يتصدقوا عليهم من الصندوق الذي هو مخصص أصلا لمجابهة تداعيات الوضع الراهن.

ومن بين أخوات كورونا كذلك تنامي الحسابات الشخصية الضيقة ونسيان المصلحة العامة، مصلحة هذا الوطن وهذا الشعب، وقد لمسنا هذا في السجالات الفارغة بين الأطياف المختلفة المتنازعة، وبين المشارب المتباينة ليغدو الأمر مجرد انتصار للذات والهوى، وكأن الأمر مجرد تصفية حسابات ضيقة على حساب المطلب الأسمى الذي هو الوصول بهذا الوطن إلى بر الأمان وتقديم مصلحته فوق كل مصلحة.

سنجتاز هذه المرحلة حتما ، وستكلل معركتنا مع هذا الوباء بالنصر، ولكن ينبغي أن نلتفت بعد القضاء على كرونا إلى أخواتها التي تعيث فسادا في هذا الوطن ، فنعمل على تنقية النفوس من كل ما يتلبسها من ضروب القيم الرذيلة من جهل وتسيب وأنانية واستغلال، و… ولن يتأتى ذلك إلا بتهيئة السبل والوسائل الكفيلة بالتربية والتعليم الصحيحين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *