وجهة نظر

من أجل مشروع وطني تاريخي

يتمثل الرهان الأساسي الديمقراطي والوطني حاليا ومستقبلا في المغرب، وبصرف النظر عن تحديات وتداعيات جائحة فيروس كرونا المستجد، وعن مسارات الديناميات الاجتماعية والسياسية والإصلاحات الجزئية ومآلاتها هنا وهناك، بالدرجة الأولى في شكل آخر للوطن، بدءا باستئصال الفساد والهشاشة والفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والمجالية ومحاربة اليأس والإحباط الذي بات ينخر فئة الشباب بشكل خاص، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، وقطع دابر الانتهازية، والقطع أيضا مع معادلة السياسة مقابل الثروة. وإعادة الإعتبار للكفاءات ذات المصداقية.

فلا قيمة لأي إصلاحات دستورية وسياسية، إذا لم تكن مصحوبة بقرارات جريئة لتقويم الاعوجاجات التي طالت أساليب التدبير والتسيير، واحتواء الاختلالات التي مست النموذجين، الاقتصادي والاجتماعي، ووضع حد للانحطاط السياسي، وفشل الاختيارات المتبعة في القطاعات الإستراتجية والإجتماعية الأساسية خاصة التعليم والصحة والتشغيل.

ومن هنا تطرح بشكل جدي وحتمي ضرورة إعادة النظر بشكل جذري في ترتيب الأولويات وصياغة الإستراتيجيات، وفي مقدمة تلك الأولويات اعتبار البحث العلمي بكل أنواعه اختيارا استراتجيا لارجعة فيه، والتعاطي مع قطاعي الصحة والتعليم بمنظور جديد ومغاير تماما، منظور يتأسس على كون الصحة والتعليم هما حصانة ومناعة وحماية وقوة مجتعنا وبلادنا.

كما أن إعادة النظر في السياسة الإجتماعية أصبحت مسألة حيوية ومركزية، ومن هنا يتعين التفكير في حزمة إجراءات ذات أفق استراتجي فيما يتعلق بقضية التشغيل وتحسين مستوى عيش شرائح اجتماعية عريضة، كشف وباء كرونا المستجد عن حجم التحديات التي تطرحها هذه الشرائح أمام الدولة والمجتمع على حد سواء. لسبب بسبط هو أن الوجود الاجتماعي يحدد درجة وعي الطبقات والفئات.

وإذا كانت الهشاشة ومختلف أشكال الخصاص والعلل والسلوكات العنيفة، هي الخاصية التي تطبع جزءا لايستهان به من مجتمعنا، فإن الوضع يزداد تعقيدا وتداخلا. وفي هذا السياق ينبغي تحيين البراديغم الذي اشتغلت بموجبه اللجنة التي أنيط بها صياغة النموذج التنموي المرتقب، لأن المعطيات الراهنة والمتغيرات التي ستفرزها حتما جائحة فيروس كرونا المستجد في كل المجالات، تستدعي إدراج وإدماج كل هذه العناصر والاقتداء بها والتفكير بتفاعل معها.

ومادمنا بصدد الحديث عن الظرفية الحرجة والدقيقة التي تجتازها بلادنا والبشرية جمعاء. فإن نفس المعايير يجب أن تنطبق على الإقتصاد المغربي، فهو مطالب بالتكيف مع الأوضاع العالمية المستجدة كيفما كانت نتائجها وآثارها الجانبية، وظهر جليا أن مبدأ السيادة الاقتصادية والإنتاجية عنصر أساسي في مواجهة الكوارث والأزمات، خاصة عندما تغلق الحدود وتشل حركة النقل الجوي وتعطل دورة الإنتاج في العالم برمته.

لقد قفز مفهوم الدولة الوطنية ودولة الرعاية إلى الواجهة، وانصب الإهتمام عليه بشكل غير مسبوق، وحتى عتاة النظام الرأسمالي وأنصار إقتصاد السوق وخوصصة كل شيء، والجيل الجديد من الشعبويبن اليمنيين، اقتنعوا بأن القطاعات الاجتماعية الأساسية يجب أن تبقى تحت سيادة الدولة.

وظهر أيضا أن القطاع الخاص، بدون الدولة لن تكتب له الحياة ولن تضمن له الاستمرارية، وهذا ما يطرح على هذا القطاع، بعد الخروج من هذه الأزمة، إحداث تغييرات عميقة في سلوكه الاقتصادي وعلاقته بالمجتمع والدولة، وفي القيم التي تمثلها والعادات التي درج عليها، لأن الأرباح مهما كانت ضخمة وكبيرة، لن تكون لها أية دلالة إيجابية، إذا لم تساهم مقاولات ومؤسسات القطاع الخاص، في تقوية ودعم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وترجمة التضامن الوطني على أرض الواقع، عبر ضمان حقوق الأجراء وتحسين أوضاعهم المادية والمعنوية.

وعودا على بدء، وبعلاقة مع الظرفية الحالية وماتتطلبه من تعبئة ووحدة وتضامن وتماسك، أعتبر أنه مهما بلغت التنافسات السياسية والصراعات الفكرية والإيديولوجية من حدة وضراوة بين مختلف الفاعلين والمرجعيات والفرقاء السياسيين في بلادنا ، فهناك قواعد ومقتضيات يجب الاحتكام إليها، لتجنب الانزلاقات، والحيلولة دون الوقوع في اخطاء قاتلة ، قد تضعف المغرب وتعيده خطوات إلى الوراء ، ومن هذه المقتضيات ،خدمة الوطن والمواطنين، والدفاع عن المصلحة العامة،والانصات إلى نبض الشارع ،والتعامل بجدية وبحس استباقي مع مختلف المطالب والمشاكل ، فالالتزام بهذه المقاربة في سلوك وممارسة الفاعلين والمسؤولين على اختلاف مواقعهم، قادر على وقف عدد من المظاهر المسيئة لأي تجربة ديمقراطية صاعدة ،وقادر على تعزيز المصداقية والثقة في مؤسسات الدولة ،التي أظهرت فعالية ونجاعة لاجدال فيهما في كيفية تدبير أزمة كرونا.

تأسيسا على هذه المؤشرات والمتغيرات، أرى وبكل صدق أن المغرب وبقوة الواقع والوقائع، مفروض عليه بناء مشروع وطني جديد ومجدد بهدف التجسيد العملي لشعار الوطن للجميع، من خلال تعاقدات واضحة،وقواعد عمل دقيقة . واختيارات وتوجهات متفق عليها، والهدف الجوهري من وراء إعتماد هذا المشروع التاريخي ، هو التأسيس لممارسة بديلة مبنية على الوفاء للمبادئ الكبرى المرتبطة أساسا بالمصداقية والمواطنة والوطنية المغربية والديمقراطية والعدالة والحداثة والتنمية الملموسة والناجعة، الكفيلة بإحداث تحولات نوعية على كافة المستويات .

إن بلورة مشروع وطني جديد في السياق الحالي ، ضرورة حيوية وحتمية سياسية واجتماعية ووجودية، لضمان اشتغال سليم وناجع ومغاير للدولة والمجتمع ومختلف المؤسسات و للديمقراطية أيضا ،مع ما يقضيه ذلك من صراحة وصدق وشفافية ووفاء وشجاعة واستقلالية واحترام لمختلف التعاقدات والآراء .دون إقصاء أواستثناء أو تهميش.

إن التفكير بأفق إيجابي، مستند إلى إرادة التفاؤل فيما سيواجهنا من مشاكل وأزمات ، الهدف منه بالدرجة الأولى تجاوز أزمة المصداقية والثقة التي باتت تشكل ثغرة كبيرة في بلادنا، خاصة على المستوى السياسي والمؤسساتي، والعمل على تفادي الكسل السياسي والفكري، والعقم في إنتاج المبادرات واقتراح الحلول واجتراح المقاربات والمشاريع المقنعة بأهدافها ونتائجها.

الآن ربما أصبحت الشروط ناضجة، ومختلف السياقات تدعو بشكل ملح إلى الاشتغال من الآن على إعادة وصياغة المفاهيم والقيم والعلاقات، وطرق التشريع والاجتهاد في بناء المشروع الوطني الجديد والكبير، القادر على إحداث سلسلة من القطائع، بعيدا عن التأويلات غير السليمة التي يمكن أن يمليها ماهو موجود في واقعنا المقلق، والذي إذا لم يواجه بمشروع من هذا النوع والحجم، فإنه لن يشجع سوى على اليأس والشعبوية والبلطجة السياسية وعدم الثقة في المؤسسات،بما في ذلك مؤسسات الوساطة على اختلاف مستويات تدخلها وتأطيرها، والعزوف والنفور من العمل السياسي.

كما أن الظرفية الحالية وما تحمله من أسئلة مربكة تطالبنا بتبني طرق تفكير وتنظيم وتأطير وتواصل جديدة ومبدعة وفعالة، تفهم الواقع وتقرأه في كل المناحي والمسارات، وتفكك معطيات ومستجدات المناخ الإقليمي والدولي على اعتبار أن المغرب ليس جزيرة معزولة عن العالم، رغم أن جائحة فيروس كرونا المستجد، حولت دول العالم إلى جزر منعزلة ودول متباعدة كل واحدة تفكر في ذاتها ولذاتها ومن أجل مصلحتها الوطنية أولا.

صحافي وكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *