وجهة نظر

سيناريوهات ما بعد عصر الكورونا

الحديث عن سيناريوهات متوقعة وتحولات جغرافية وسياسية واقتصادية في العالم ما بعد عصر فيروس الكورونا شيء سابق لأوانه، لكن انطلاقا من التجارب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية العاصبة والصعبة التي مرَّ منها العالم في وقت من الأوقات خلال القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، تجعلنا نتوقع أشياء جديدة في هذا العالم لم تكن في الحسبان ؛ بداية من الثورة الفرنسية سنة 1789 التي غيرت نظام الحكم في فرنسا، وفي مجموعة من الدول والإمبراطوريات العالمية، وحررت العقل الفكري، الفلسفي، الأدبي، … والديني، كما أنارت الطريق نحو ظهور عالم جديد تحكمه الآلة الصناعية والتجارة والسياسة والمعرفة لا الكنيسة والطغاة.

اندلعت بعد ذلك الحرب العالمية الأولى التي بدأت سنة 1914 وانتهت سنة 1918، والتي نتج عنها ظهور مستعمرات جديدة لدول أوروبا الغربية التي تربعت على عرش أفريقيا؛ باحتلالها معظم دولها، إن لم نقول كل الدول الأفريقية أصبحت تحت سيادة ورحمة دول أوروبا الاستعمارية الدكتاتورية . كلها أحداث تفاقمت أدت إلى تراجع حاد في الاقتصاد والتجارة و الأزمات السياسة، حتى وصل العالم بأسره إلى الثلاثاء الأسود الذي أعلن فيه عن نفاذ العملة الصعبة، وانهيار بورصة وول ستريت الأمريكية يوم 29 أكتوبر 1929 ، مما أدى ذلك تراجع حجم الاقتصاد الأمريكي، وتأثيره على حجم المبادلات التجارية؛ بسبب كثرة العرض وقلة الطلب .

بعد هذا تأتي الحرب العالمية الثانية، بين دول الحلفاء بزعمهة فرنسا وبولندا وبريطانيا إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكيا التي دخلت على الخط في الجزء الثاني من الحرب، ودول المحور التي بزعمة ألمانيا النازية إلى جانب اليابان وإيطاليا . هذه الحرب التي خلفت بدورها ملايين القتلى والمعطوبين والمتشردين في جميع أنحاء العالم؛ وخاصة أوروبا واليابان والفيتنام، وصولا إلى الأزمة الاقتصادية سنة 2008 التي لا تقل أهمية عن سابقتها في حجم كساد التجارة والاقتصاد العالميين، وانهيار العملة الصعبة ( الدولار الأمريكي والأورو) بجم كبير .

إن ظهور تحالفات جديدة بين الدول القوية، والدول التي في طور النمو ؛ اقتصاديا وسياسيا وتجاريا لا محال منه بعد الكورونا، في ظل التوترات التي يعيشها العالم، والاتهامات المتبادلة التي أصبحنا نراها ونقرأها في الإعلام العالمي، وفي مواقع التواصل الاجتماعي بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا من جهة والصين من جهة أخرى، لتدخل دول أوروبية أخرى على الخط، وغالبا ما تدعم الطرح الأمريكي الذي اتهم الصين بصناعة الفيروس في مختبرات ووهان؛ من أجل الترويج للاقتصاد الصيني بين دول العالم، ورفع قيمة تبادلتها التجارية.

ومن قبلها قضية هاتف الهووي الذي دخلت بسببه الصين وأمريكا سنة 2019 في أزمة ودبلوماسية واقتصادية تجارية، من أجل حماية الاقتصاد الأمريكي من منافسه الأول الصيني ، كل هذا التطورات التي حدثت بعضها في الخفاء، وبعض آخر خرج إلى العلن والإعلام العالمي، إضافة إلى أزمة فيروس كورونا التي قد تسرع في اندلاع حرب عالمية ثالثة، بالسلاح البيولوجي والجرثومي اللذين حضرتهما وطورتهما الدول الرأسمالية القوية في مختبرتها سرا، في الوقت الذي حصرت فيه الولايات المتحدة الأمريكية الصين تجاريا واقتصاديا من دخول أراضها، إلا بتكلفة جمركية مرتفعة الثمن؛ للحد من وقف النزيف الاقتصادي والتجاري الأمريكيين اللذين انهارا في ظل وجود منتوج صيني أقل منه تكلفة، وقد يكون الأفضل منه جودة وعطاء، فهاجس الولايات المتحدة الأمريكة حاليا ومنذ مدة طويلة هو ضرب كل اقتصاد ينافس الاقتصادي الامريكي في العالم وخاصة الاقتصاد الصيني المنافس الأول له، لأن سياستها الخارجية والاقتصادية والصناعية مبنية على الربح والجشع وتقوية النظام الرأسمالي في العالم .

الولايات المتحدة الأمريكية أكبر قوة حاليا في العالم؛ تجاريا اقتصادية، صناعيأ وعسكريا خرجت بخفي حنين من حرب العراق، منهزمة ومنهكة مذلولة بشهادة سياسيها واقتصاديها وكبار قادتها في مجلس الشيوخ، والتي خسرت فيها تريليونات الدولارات و ألاف الجنود؛ من أجل الإطاحة بنظام صدام حسين، وبسط سيطرتها على النفظ العراقي بالكامل . فأول ما قامت به للحصول على غنيمتها من النفط في فترة سابقة؛ هو اتهامها العراق بتوفرها على سلاح الدمار الشامل، وفي الأخير بعد سقوط نظام صدام حسين ودخول الجنود الأمريكيين العراق، لم تصل أمريكا إلى نواياها وهدفها الرئيسي الذي أعلنت بسببه الحرب على العراق سنة 2003، رغم إنشائها قاعة عسكرية هناك وقواعد في بعض دول أسيا تراقب بها الدول المجاورة للعراق من أجل بسط سيطرتها و هيمنتها سياسيا واقتصاديا بالمنطقة، وخاصة الصين التي دخلت كل بيت في العالم ؛ بتكنولوجيتها المتطورة، ولضمان وجود إسرائيل بالمنطقة تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية .

إضافة إلى الخسائر المالية والاقتصادية والسياسية التي تكبدتها أمريكا بالعراق، نجدها في صراع شبه دائم مع إيران في الفترة الأخيرة والتي فرضت عليها مجموعة من العقوبات السياسية والاقتصادية والصناعية، لكن إيران لا تبالي لعقوبات وتهديدات أمريكا؛ لأنها مدعومة من طرف روسيا التي تنافس أمريكا على زعامة سياسة واقتصاد العالم خاصة في الأسلحة النووية الفتاكة، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1991 أصبح العالم بأسره في قبضة من حديد بين أيادي أمريكا الرأسمالية .

لقد تكبدت الصين خسائر تقدر بمليارات الدولارات جراء انتشار الفيروس بها منذ أواخر شهر يناير سنة 2019 ، وهي الذي تحتل المرتبة الثانية عالمية اقتصاديا وتجاريا وصناعيا بعد الولايات المتحدة الأمريكية إلى حدود أزمة الكورونا التي عصفت بالعالم . رغم وجود تقارير اقتصادية دولية ترجح كفة الصين في قدرتها على مقارعة أمريكا وسيطرتها على الإقتصاد والصناعة العالميين في سنة 2020 ، فأمريكا التي تحتل المرتبة الأولى بين دول العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي خرجت منها منتصرة غير قادرة اليوم في ظل التطورات التكنولوجية، والتحولات السياسية والجغرافية والصناعية إضافة إلى دخولها في حروب منذ مدة من قيادة العالم إلى بر الأمان، لقد انهار اقتصادها وصناعتها وتراجعت تجارتها الخارجية وانهار نفطها الصخري بطريقة سريعة، بين عشية وضحاها أصبح سعر البرميل أقل من دولارين، لكن قد يكون هذا الانهيار أحد الأسلحة الأمريكية لمواجهة المد الشيوعي الصيني والروسي، كما قد يكون هذا الانهيار المفاجئ خدعة من خدع بلد يتوفر على أكبر احتياطي العالم من النفط ، رغم الأزمات والصراعات والحروب التي شاركت فيها الولاية المتحدة الأمريكية.

حتى الدول العربية لن تسلم من هذه السيناريوهات المنتظرة، لا محال عنها بعد عصر الكورونا ، وهي التي لم تشف بعد من مخلفات الربيع العربي الذي عصف برؤساء دول، وحطم اقتصاد وصناعة وتجارة وسياحة دول أخرى ، كما ساهم بشكل كبير في بروز أحزاب سياسة جديدة وصلت إلى السلطة برعاية سيادية في بعض الدول، وبانتخابات شعبية في دول أخرى، ومعظمها ذات مرجعية دينية أو تتبناها في سياستها الانتخابية لمواجهة المد الشعبي الذي انتفض في معظم شوارع الدول العربية، ولازال سائرا إلى حدود اليوم يواصل انتفاضته المعلنة سابقة، تحت عرش الحرية والعدالة والشغل والتعليم والتطبيب . هذا ما لازلنا نشاهده بتونس احتجاجا على سياسة الرئيس قيس سعيد من طرف المعارضون له، رغم انتخابه من الشعب في انتخابات شعبية، وفي مصر أيضا احتجاج الإخوان على الرئيس الجديد الذي انقلب على الرئيس الشرعي المنتخب من طرف الشعب، فمرسي في نظر الإخوان قد وصل إلى السلطة بفضل ترسانته العسكرية التي يقودها من مدة طويلة في حكومات متعاقبة، وبدعم غير معلن، من طرف إسرائيل وقد شاهدنا هذا في الاعلام العربي، وبرعاية الولايات المتحدة الأمريكية .

نفس الشيء نجده في ليبيا التي لازال فيها الربيع الوهمي جارية إلى حدود الآن، يحصد أرواحا ويخلف قتلى ومعطوبين رغم انتشار الفيروس، لم تتوقف الحرب بين قوة النظام وقوة حفتر الذي دخل على الخط بعد وفاة الرئيس مهمر القدافي ، مدعما من طرف الولايات المتحدة الأمريكية ، وهذا أكثر بمئات المرات من أزمة الكورونا التي ضربت العالم، كما نجد ربيعا متأخرا نسبيا وزمنيا في الجزائر مقارنة بتونس ومصر وليبيا فهو أقل خسائر وضحايا، والذي اندلع مباشر بعد إعلان الرئيس عبدالعزيز بوتفلقة لترشحه لولاية خامسة على رأس الحكومة التي يتزعمها الضباط والعسكر، فالشعب يطمح إلى التغير والانفصال عن فرنسا كليا في الاقتصاد والتجارة والسياسة، ويبحث الحرية والعادلة والكرامة. هذا ما وقع أيضا في اليمن قبل سنوات إلى يومنا … مما سيعجل من الخليج إلى المحيط بتفكك عربي، وتفاقم الصرعات الخارجية والداخلية واندلاع الحروب بين الدول، التي تبحث لها عن مكانة بين الدول الصناعية الكبرى ( السعودية، قطر، الامارات ) في التأثير في سياسة المنطقة الخليجية وشبه الجزيرة العربية ودول شمال أفريقية .

نفس الشيء وقع في المغرب أثناء الربيع العربي الذي أوصل حزب العدالة والتنمية إلى أعلى سلطة بالبلد، بعد انتظار طويل تربص فيها الإخوان وانتهزوا فرصتهم كباقي الأحزاب السياسية السابقة التي وصلت إلى سيادة الحكومة بعد تقربها إلى المخزن بطريقة أو بأخرى، لكن لا شييء تغير في البلد؛ كل ما وقع هو زيادة تكلفة العيش، وارتفاع معدل البطالة، و انتشار الجريمة أكثر، وتراجع الاقتصادي والتجارة والصناعة في المغرب ، وتراجع صرف الدرهم بعد تعويمه مقابل العملة الأجنبية . وقد يستغل بعض الرؤساء فيروس الكورونا لصالحهم في ردع الشعب المقهور عنوة ، وحرمانه من أبسط شروط العيش الكريم، كما فعل ملك المغرب المولى سليمان إبان ظهور الطعون بالبلد، والذي حوله إلى سلاح فتاك واجه به قبائل عبدة ودكالة المتمردة على عرش البلد في فترة من الفترات .

لقد تغيرت خريطة العالم الجغرافية مررا وتكرارا؛ نتيجة عوامل سياسيا أو اقتصادية أو صناعية أو اجتماعية عرقية بعد الحرب العالميين الأولى والثانية، والتي نتج عنهما ظهور دويلات جديدة بأفريقيا وأسيا وأوربا الشرقية، لكن بعد عصر الكورونا هذا من المتوقع أن تظهر تحالفات سياسية واقتصادية وتجارية جديدة، لا علاقة لها بالدين والاقتصاد والصناعة والتجارة والعرق والموارد الطبيعية أو الموقع الجغرافية ، كل ما سيجمع هذه التحالفات الجديدة، هو كيف يمكن الخروج من هذه الأزمة العالمية بأقل الأضرار ، ومن أجل المزيد من السيطرة والهيمنة على دول العالم . ومن المحتمل أن تتحالف الولايات المتحدة الأمريكية مع كوريا الشمالية رغم العداء التاريخي بين الدولتين، والمعلن عنه اعلاميا واقتصاديا وتجاريا وصناعيا ، لكن لا شيء يضمن لنا عدم تحالفهما في الخفاء، ففي السياسة ليس هناك صديق دائم ولا عدو دائم وهي التي تتبعها الولايات المتحدة الأمريكية في سياستها الخارجية، حيث يطلع علينا رئيسها دونالد ترامب كل يوم بخطاب فيه تهديد وتخويف ناعتا الفيروس بالفيروس الصيني بكل ما تحمله الكلمة من واقحة وعنصرية وعدائية، لهذا لا شيء يضمن لنا عدم تحالفهما في الخفاء مع كوريا الشمالية وهذا أسوء سيناريو يتوقعه أكبار متشائم في العالم، نفس السيناريو عشناه مع أمريكة في مواجهة البرنامج النووي الإيراني، في الأخير تنازلت أمريكا عن بعض مصالحها وقمت باغتيال السليماني؛ الذي قدمته إيران ككبش فداء لتحافظ أمريكا على ماء وجهها الملطخ بالدماء والخيبات أمام العالم، نفس الشيء ردت بيه إيران عن قتل السليماني عندما استهدفت قاعة عسكرية أمريكية بالعراق، وقتلت جنود أمريكية مرابطة بالعراق انتقاما للسليماني اليد اليمنى لروحاني .

أما سيناريو دول أوروبا، وخاصة التي تعرف انتشارا واسعا للفيروس ؛ منها بالدرجة الأولى إيطالية وفرنسا وإسبانيا وألمانيا … فهذه فرصتهم للتخلص من بقايا المجتمع الذي يعرف ارتفاعا في معدل الشيخوخة التي تكلف الدول الأوروبية ملايير الدولارات شهريا، مقارنة بدول أخرى أقل منها حول العالم أقل منها تكلفة، وقد اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، أن وباء كوفيد-19 سيزيد من تفاقم “الانقسامات ” التي شاهدها العالم، ويشاهدها الآن في ظل توسع الفيروس وتوسع الصراعات، والخصومة الصينية الأميركية، ويُضعف في نهاية المطاف التعددية الدولية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. وقد يكون هذا رأي معظم حكام أوروبا الذين ينتمون إلى الإتحاد الأوربي الوهمي الذي أبان عن حقيقته في هذا الأزمة الغير متوقعة من أكبر المتشائمين عبر العالم، عندما أدارت معظم دوله ظهرها لإيطاليا الجريحة، والتي تلقت الدعم الطبي من دولة الصين، وحتما هذا سيزيد من التربصات والتراكمات التي ستعجل أو تأجل بانهيار ما يسمى بالاتحاد الأوربي، الذي نهب و ينهب خيرات أفريقيا منذ زمن طويل؛ إما غصبا أو تحت التهديد والتهريب بمساندة بعض الرؤساء والوزراء والشركات المتعددة الجنسيات التي اتخذت دول العالم الثالث مقرا لها، والذي سيدفع فثورة كورونا عاجلا أو أجلا بعد نهاية الحرب الكورونية بالعالم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • عبدالله
    منذ 4 سنوات

    شكراا لجريدة العمق على النشر