وجهة نظر

تعويضات “المجلس الوطني للصحافة” .. الجدل في زمن الجائحة

ونحن في حالة شرود وتيهان فكري، في محاولة لاقتناص مقدمة أو مدخل لهذا المقال، لم نجد بدا من الركوب على صهوة النوستالجيا، والتوقف الاضطراري عند مرحلة الثانوي التأهيلي بثانوية “بن رشد” بتمارة، وتحديدا في مادة “اللغة العربية”، التي كانت تتيـح لنا متنفسا، ونحن شبابا يافعين، للإبحار في الشعر العمودي والشعر الحر والقصة والرواية، حينها، وكلما كنا نتواجد وجها لوجه أمام عمل إبداعي شعري أو نثـري، كلما كان لزاما علينا أن نفك شفرة “سياق” النص الأدبي شعرا كان أو نثرا، وهو سياق لا يمكن البتة، السفر بين بحوره أو التيهان بين سطوره ومفرداته، دون استحضاره أو استدعائه، لأنه يعـد “المفتاح السري” لما صدر عن الشاعر أو الكاتب من إبــداع، وحينها أدركنا، ونحن نخطو الخطوات الأولى في كتابة الشعر والقصة، أن كل عمل إبـداعي، هو “مرآة عاكسة للسياق” (الظروف الذاتية والموضوعية التي تحكمت في الإبداع)، وفي السياق، تتحرك عجلة المخاض، ويحضر جنـون الإلهام، بكل ما يحمله من لذة وقسـوة وألم وآهات، قبل أن تنتهي الرحلة الإبداعيـة، بتوقيع الشاعر أو الكاتب، لشهادة ميلاد مولود جديد، قد يكون قصيدة شعرية أو قصة أو رواية أو غيرها، وحينها أدركنا، أن كل ممارسة أو حدث أو تصرف، إذا لم يكن مرتبطا بواقعه وعاكسا لنبضه، يكون فعلا “خارج النص” و”خارج السياق”… بشكل يجعله “فريسة” لمفردات الجدل والإثارة والإدانة والانتقاد…

وهي مفردت حضرت بقوة، عقب إفراج الحكومة عن مرسوم يتعلق بالمصادقة على النظام الداخلي للمجلس الوطني للصحافة، كشف عن التعويضات المخولة لفائدة أعضاء المجلس الوطني للصحافة (أبقى تعويضات الرئيس في حيز “السرية”)، كما حضرت قبل أيام، بمناسبة تسريب “مشروع القانون المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة الذي تم تعليقه إلى “أجل غير مسمى”، وهي “تعويضات” وصفها البعض بهدر للمال العام وتكريسا للريع الإعلامي على غرار الريع السياسي، واعتبرها البعض الآخر تعويضات “سخية و “مبالغ فيها”، وشكلا من أشكال التهكم والاستخفاف بالمغاربة من دافعي الضرائب، من منطلق أن التمثيلية بالمجلس هي تمثيلية “تطوعية” وليست “وظيفة” تستدعي تعويضات أو أجور شهرية، والبعض الثالث، ربط “التعويضات السخية” بممارسة سياسية، مغذية ومشجعة على “ثقافة الريع” بكل امتداداتها ، وكشكل من أشكال احتواء المشهد الإعلامي وضبط إيقاعاته، كما ربطها بالدعم الذي تتلقاه مجموعة من المنابر الإعلامية من المال العام، مقابل تقديم إنتاج غارق في الرداءة والتفاهة والانحطاط، وهي آراء ومواقف، رصدناها في عدد من التعليقات في مختلف منصات التواصل الاجتماعي، ومنها أراء ومواقف مسؤولة صادرة عن أساتذة باحثين وصحافيين مهنيين، لم يجدوا حرجا، في التعبير عن رفضهم وقلقهم وإدانتهم، لموضوع تقديم “تعويضات” بهذه السخاوة وفي هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية.

إذا ما تركنا هذه الآراء والمواقف جانبا، نؤكد أنه “من غير المقبول” من الناحية السياسية والمبدئية والاجتماعية، اتخاذ قرارات أو تنزيــل قوانين مثيرة للجدل مغذية للنعرات والقلاقل، في هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية، خاصة إذا كانت القرارات ذات تكلفة مادية أو ذات صلة بهدر المال العام، وهي ظرفية حرجة، تقتضي بل وتفرض الحرص أشد الحرص على المال العام، بترشيد وعقلنة النفقات، كما تفرض الإبقاء على مستوى “التعبئة الجماعية” وعدم تشتيت الرأي العام، من أجل إنجاح الرفع التدريجي لحالة الطوائ الصحية، والمرور بخطوات موزونة ورؤى متبصرة إلى “مرحلة ما بعد كورونا”، التي تستدعي المزيد من اليقظة والجدية، بالنظر إلى التداعيات الجانبية للجائحة خاصة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، دون إغفال التحديات الآنية والمستقبلية، ذات الصلة بالإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية، تحسبا لأية موجة ثانية للوباء.

التعويضات موضوع الجدل، ليست فقط خارج النص أو السياق، بل هي خارج ظرفية “استثنائية” تقتضي حماية المال العام والقطع مع كل الممارسات المكرسة للريع الذي أفسد السياسة وأفرغها من قيمتها ومحتواها، كما تقتضي إيلاء الأولوية للقطاعات الاجتماعية التي أثبتت الجائحة نجاعتها وطابعها “الاستراتيجي” وعلى رأسها الصحة والتعليم والبحث العلمي، وهي القطاعات التي تجعلنا نتذيل المراتب المتأخرة عالميا على مستوى “مؤشر التنمية البشرية”، وخارجة أيضا، حتى عن نطاق أهداف “المناشير” التي أصدرها رئيس الحكومة في سياق مواجهة الانعكاسات السلبية لجائحة كورونا، وما تقـتضيه من جهود وتعبئة للموارد المتاحة لتجاوز هذه الظرفية المقلقة، ونخص بالذكر المنشورين الموجهين إلى السادة “الوزراء” و”الوزراء المنتدبون” و”المندوبون السامون” و” المندوب العام”، المتعلقين على التوالي بالتدبير الأمثل للالتزامات بنفقات الدولة والمؤسسات العمومية خلال فترة حالة الطوارئ الصحية، و المساهمة في الصندوق الخاص بتدبير جائحة كورونا، والمنشور الخاص بتأجيل تسويـة جميع الترقيات المبرمجة في ميزانية السنة الجارية – غير المنجزة لحد الآن – وجميع مباريات التوظيف – ماعدا التي تم الإعلان عن نتائجها -، والمنشور الذي وثق للاقتطاع من أجرة جميع الموظفين التابعين لمختلف القطاعات الحكومية والمؤسسات العمومية التابعة لها، لدعم الصندوق الخاص بتدبير الجائحة، واعتبارا لهذه المناشير العاكسة لخصوصيات الظرفية “الكورونية” التي تفرض تحصين المال العام، نجازف في القول، أنه من المخجل، الإنعام على مجلس الصحافة بتعويضات سخية في زمن الأزمة والجائحة، بينما يتم شد اليد، لما يتعلق الأمر بقطاعات أخرى ومنها التعليم، وفي هذا الصدد وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر أن نساء ورجال التعليم يؤمنون عمليات التعليم عن بعد من مالهم الخاص ودون أن توفر لهم الوزارة الوصية، أي دعم مادي أو وسيلة إلكترونية، وبما أننا على مشارف استحقاقات البكالوريا، نثير الانتبـاه، أن نساء ورجال التعليم، يؤدون أكثر من مهمة بدون تلقي أي تعويض (مهمة المراقبة/الحراسة الخاصة بامتحانات البكالوريا، مراقبة وتصحيح الامتحانات المهنية وامتحانات التوظيف …) ويصححون أكواما من الأوراق في عملية لها تداعيات نفسية وصحية، مقابل مبلغ “محرج جدا” يصعب الإفصاح عنه لهزالته.

وفي هذا الصدد، نؤكد أننا لسنا ضد الصحافة ولا ضد أية إمكانية لدعمها والرفع من قدراتها، ولكن ضد أية ممارسة من شأنها الإسهام في هدر المال العام في مجلس (المجلس الوطني للصحافة) مهمة أعضائه هي “مهمة تطوعية” صرفة وليس بوظيفة تقتضي أجرا شهريا، وضد تقديم الدعم من مالية الدولة، لأعضاء كلهم يمارسون وظائف ومهن يتلقون عنها أجورا شهرية (ناشرون، صحافيون مهنيون، موظفون ينتمون إلى مؤسسات وهيئات عمومية، محامون)، بينما هناك قطاعات أخرى تعاني في صمت وعلى رأسها الصحة والتعليم، وضد أية ممارسة سياسية تفتح الأبواب على مصراعيها في وجه البعض، بينما تقفلها في وجه البعض الآخر، تحت مبررات “الجائحة” و”إكراهات الميزانية”، وضد أي قرار مثير للجدل من شأنه التشويش على ما يبذل من جهود تدبيرية في ظل الجائحة، وفي جميع الحالات، وحتى إذا تم الإقرار بضرورات تقديم الدعم لهذا المجلس، فكان من المفروض تأجيل النظر في موضوع هذه التعويضات، حتى زوال الجائحة، على أساس أن تكون تعويضات “مقبولة” أو “منطقيـة” طالما أن المهمة هي “مهمة تطوعية”، ونختم القول، بأن هذه التعويضات المثيرة للجدل، ستضعنا أمام نوع آخر من الريع، ويتعلق الأمر بالريع الصحافي أو الإعلامي الذي سيعزز صرح “كوفيد الريع” بكل مستوياته وامتداداته، عسى أن نصغي لصوت “كورونا” ونلتقط ما جاد به الوباء العنيد، من “دروس” و “عبر”، في زمن يتحرك وتاريخ لا يرحم … عسى أن نكون في مستوى الامتحان .. فعند الامتحان، يعز المرء أو يهان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *