وجهة نظر

“أرشيف اليوسفي” و”أرشيف المغرب”

لقد خصصنا مقالا سابقا، لفقيد الوطن، الراحل “عبدالرحمان اليوسفي” رحمه الله، تحت عنوان “وداعا صاحب أحاديث في ما جرى .. وداعا عبدالرحمان اليوسفي”، حضي بشرف النشر في عدد من الجرائد والمواقع الالكترونية الوطنية والعربية، في التفاتة متواضعة في حق “رجل استثنائي” انتـــزع “الإجماع” في زمن التفرقة والشتات، وكسب المحبة والتقدير والاحترام، في زمن الأنانية المفرطة والعناد والصدام، والعودة إلى الراحل في مقال ثان، أملته الرغبة في توجيـه البوصلة نحو ما يكون قد تركه الرجل من “تراث أرشيفي خاص” على جانب كبير من الأهمية والثراء، وبالقدر ما يعد هذا التراث الأرشيفي ملكا خالصا لذوي الحقــوق، بالقدر ما نؤكد أنه يدخل في نطاق” الأرشيف الخاصة” ذات “النفــع العام”، بالنظر إلى قيمة الرجل وقيمة مساره النضالي والحقوقي والنقابي والحزبي والسياسي والإعلامي، وقيمة وخصوصيات الظروف والأحداث التي لم يكن فقط معاصرا لها، بل كان أيضا طرفا فيها ومؤثرا ومتفاعلا معها، بدءا بانخراطه المبكر في صفوف الحركة الوطنية، وانتهاء بقيادته لتجربة ما بات يعرف في الأدبيات السياسية المغربية بحكومة التناوب بين سنتي 1998 و 2002 ، قبل أن يعتزل العمل السياسي والحزبي – في صمت – سنة 2003، وهي ظروفا وأحداثا، تجاوزت حدود الرجل، وباتت جزءا لا يتجزأ من الذاكرة النضالية والسياسية والحزبية للمغرب المعاصر، ومكونا من مكونات التراث والهوية المشتركة.

ورجل دولة بهذه القيمة التاريخية والنضالية والسياسية والحقوقية والحزبية، وبهذا الإشعاع المتعدد الزوايا، من مسؤولية الدولة تكريمه كتاريخ وكذاكرة على جانب كبير من الثراء، وهو تكريم لن يمر، إلا عبر تثمين ما تركه خلال مساره النضالي والسياسي والحقوقي، من تراث أرشيفي (مراسلات، رسائل، مذكرات، صور…) عاكس لقيمة متعددة الأبعاد (علمية، تاريخية، تراثية، هوياتية …إلخ)، وفي هذا الصدد، نوجه البوصلة نحو المؤسسة الحاضنة للأرشيف المغربي (أرشيف المغرب) وذلك لاعتبارات ثلاثة :

– أولها: ما أناطه بها القانون رقم 69.99 المتعلق بالأرشيف، من مهام واختصاصات متعددة المستويات، تتقاطع في “صيانة تراث الأرشيف الوطني والقيام بتكوين أرشيف عامة وحفظها وتنظيمها وتيسير الاطلاع عليها لأغراض إداريــة أو علمية أو اجتماعية أو ثقافيــة”.

– ثانيها: ما أتاحه لها المشرع الأرشيفي من صلاحيات قانونية، تتيح لها وضع اليد على الأرشيف الخاصة ذات النفع العام، وهو ما عبرت عنه المادة 24 التي نصت على ما يلي : “تؤهل “أرشيف المغرب” لأجل صيانة تراث الأرشيف الوطني، أن تتملك عن طريق الشراء وأن تتلقى على سبيل الهبة أو الوصية أو الوديعة القابلة للاسترجاع، أرشيفا خاصة تتولى حفظها ومعالجتها والتمكين من الاطلاع عليها” وهي تدخلات وتصرفات تتم باسم الدولة ولحسابها.

– ثالثها: قيمة ما يمكن أن يكون قد تركه الراحل، من تراث أرشيفي سواء بمقر سكنه الشخصي أو على مستوى مقر “حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” ، اعتبارا لمسيرته النضالية والحزبية والسياسية والحقوقية التي تشكل مرآة عاكسة للتاريخ السياسي للمغرب المعاصر.

وعليه، واستحضارا لهذه الاعتبارات، نثير انتباه المؤسسة الأرشيفية المغربية في شخص مديرها الأستاذ “جامع بيضا” وهو على وعي وإدراك بذلك، إلى ما يكون قد تركه الراحل “سي عبدالرحمان ” من رصيد أرشيفي خاص، لا يمكن الاختلاف حول قيمته وثرائه، كما لا يمكن الاختلاف حول ضرورات حفظه وصيانته وتثمينه، ليس فقط لأنه يخص رجل دولة بصم التاريخ السياسي الوطني المعاصر، ولكن، لأنه يعد جزءا لا يتجزأ من الذاكرة النضالية والسياسية والحزبية الوطنية، ومدرسة عاكسة لما يمكن أن يكون عليه رجالات الدولة الكبار، من وطنية حقة وعفة ورقي ونبل وحكمة وتباث في المواقف، ورزانة ومسؤولية وتضحية واستحضار للمصلحة العامة و نكران للذات، و”تراث أرشيفي” بهذا المستوى وبهذه القيمة، يضـع “المؤسسة الأرشيفية” أمام مسؤولية حفظ وتثمين “الأرشيف اليوسفي” تدعيما للتراث الأرشيفي الوطني، الذي تعزز بما تسلمته المؤسسة منذ تأسيسها، من أرصدة أرشيفية لعدد من الهيئات والمؤسسات العامة والخاصة من قبيل “أرشيف هيئة التحكيم المستقلة لتعويض ضحايا الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي” و “أرشيف هيئة الإنصاف والمصالحة” و “جزء من رصيـد مصلحة الفنون الجميلة والمتعلق بمجموعة “بروسبير ريكـار”(Prosper RICARD)، الذي كان محفوظا بمديرية التراث الثقافي (وزارة الثقافة والاتصال) … إلخ، ومن أرشيفات خاصة بعدد من رجالات الفكر والسياسة والفن من أمثال “محمد الحجوي”، “عبدالله شقرون”، “شمعون ليفي” ، “مولاي أحمد الوكيلي”، “حميد التريكي”، “محمد جسوس”، “عفيف بناني”، “دافيد هارت”، “فنيش”، “عبدالله عــواد”، “حاييم الزفراني”، “دافيد هارت” و “محمد العربي المساري”…إلخ.

قد يقول قائل أن فتح ملف “التراث الأرشيفي” للراحل “سي عبدالرحمان اليوسفي” في هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية، هو “أمر سابق لأوانه”، وتتحكم فيه ظروف ذاتية وموضوعية ويخضع لتدخلات متعددة الزوايا وترتيبات مسبقة، ونحن نزكي هذا الطرح، لكن في ذات الآن، نجازف في إثارة موضوع “الأرشيف اليوسفي” بشكل استعجالي، من باب “تكريم الرجل” الذي ترك خلفه تاريخا زاخرا وتجربة مهنية على جانب كبير من الثراء، وشخصية حضيت بإجماع عصي على الفهم والإدراك في الداخل كما في الخارج، جعلته يرتقي إلى مصاف رجالات الدولة الكبار، ومن باب حفظ وصيانة وتثمين ما يكون قد تركه من “أرشيف” من شأنه أن يرصع قلادة الذاكرة السياسية والنضالية للمغرب المعاصر، وإذا وجهنا البوصلة نحو الحضن القانوني والمؤسساتي لأرشيف المغرب (أرشيف المغرب)، فنحن نوجهها موازاة مع ذلك، نحو قيــادة “حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”، اعتبارا للمسؤوليات الحزبية التي تحملها الراحل (حزب الاستقلال، حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)، ولا شك في ذلك، أن مقر الحزب، لا زال يحتضن تراثا أرشيفيا للاتحاديين، جزء منه، يحمل بصمات فقيدنا “سي عبدالرحمان”، وعليه، فالحزب، يتحمل بدوره المسؤولية في عملية حفظ وتثمين “الرصيد الأرشيفي” للراحل.

مرة أخرى، وبالقدر ما نؤكد أن فتح أي نقـــاش بخصوص “الأرشيف اليوسفي” قد يكــون “أمرا سابقا للأوان”، بالقدر ما نؤكد أن ذاكرة الرجل أكبر من لحظة حزن عابر، وتراثه الأرشيفي أقوى من أن تعطله أو تبخسه، لحظة ألم راحل، وإذا قيل “إكرام الميت دفنــه”، فنحن نقول “إكرام الميت صون ذاكرته” و”حفظ تراثه الأرشيفي” خاصة إذا كان من قيمة “سي عبدالرحمان”، وحتى إذا ما سلمنا بأن الموضوع “سابق لأوانـه”، فعلى الأقل، حاولنا التنبيه إلى أهمية وقيمة ما يكون قد تركه الراحل من “أرشيف خاصة”، فاتحين الباب على مصراعيه أمام “مؤسسة أرشيف المغرب” للتفكير من الآن، في السبل الممكنة والإمكانيات المتاحة التي من شأنها تيسير وضع اليد على “الأرشيف اليوسفي”، لما يتفرد به من منفعة عامة، وهي دعـوة مفتوحة لقيادة “حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” من أجل التنسيــق والتعاون مع “المؤسسة الأرشيفية”، بشكل يسمح برعاية وحفظ وتثمين ما تركه الفقيد من “تراث أرشيفي” تجاوز حدود ذوي الحقوق، وبات إرثا مجتمعيا، لا حضن يسعه إلا حضن “أرشيف المغرب”.

وقبل الختم، نجـدد الرحمة لفقيد الوطن “سي عبدالرحمان”، سائلين الله عز وجل أن يشمله بواسع رحمته ومغفرته، وأن يلهم ذويه وأصدقائه ورفاقه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعــون”، وإذا رحل الفقيد إلى دار البقاء، فقد ترك زوجة – نتمنى من الله أن يمتعها بنعمة الصبر ويحيطها بالصحة والعافية – بادلته المحبة بالمحبة و الوفاء بالوفاء والإخلاص بالإخلاص، والالتزام بالالتزام والعفة بالعفة والكبرياء بالكبرياء، لمدة تجاوزت السبعين سنة، وهي بذلك، شاهدة على العصر وشاهدة على جزئيات وتفاصيل حياة “رجل دولة” راحل، اسمه “سي عبدالرحمان”، رحيله خسارة لوطن بأكمله، و خسارة لدولة ما أحوجها اليوم لزعماء أحزاب ورجالات دولة حكماء و نزهاء من طينة “ابن طنجة .. اليوسفي” … ونختم القول، بإثارة انتباه “الأحزاب السياسية” وكل رجالات الفكر والسياسة والثقافة والفن، ممن يتوفرون على “أرشيف خاصة” ذات “منفعة عامة”، بأن هناك مؤسسة عمومية حاضنة و راعية للأرشيف العامة (أرشيف المغرب)، وأي انفتاح عليها أو تعاون معها، هو إسهام جماعي في بناء الذاكرة الجماعية وحفظ التاريخ وصون التراث ورعايـة الهوية المشتركة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *