وجهة نظر

النزعة الأزموية.. إشكالية الثقافي والسياسي والديني

في الآونة الأخيرة أصبح الجو العام للنقاش السياسي والثقافي يطغى عليه منطق الازمة، السياسي يتحدث من زاويته عن ازمة سياسية في ظل الحركية الاجتماعية المستمرة، والمثقف من جانبه ينتقد الأوضاع ويعارض الإهمال الذي عرفه الحقل الثقافي من طرف الدولة وكل الفاعلين. مما يجل النقاش في مختلف المنابر والمؤسسات يزيد الطين بلا، ويعمق الجراح الذي يطبع فئة مهمة من الناس والتي تنظر الى الأمور نظرة سلبية سوداوية صعبة، الشي قد يصعب ويعقد من إمكانية الإصلاح والتطوير والتجديد. وحيث إن التداخل الحاصل بين المجالين أي الثقافي والسياسي من خلال الوظائف والادوار، لابد من إعادة طرح الموضوع ومحاولة الوقوف على بعض الجوانب التي تقف حاجزا أمام المصالحة بين المثقف والسياسي.

اظن انه من الصعب ان نفصل الفصل التام بين ما هو سياسي وما هو ثقافي، بالنظر الى أهمية مساهمة كل واحد منهما في مجال الاخر، وتدخل كل عنصر في تطوير وتجديد الطرف الاخر، منها يمكن القول الحديث عن تلك العلاقة الجدلية بينهما.

بالنسبة للثقافي

الحديث عن ما هو ثقافي، يعني التكلم عن كل ما هو انساني، سلوكيات وأفكار ومبادئ وعلوم، نتحدث عن كل ما هو مكتسب عن طريق التعلم او من خلال التجارب الحياتية. والمهتم بالثقافة انما ينظر في مجال من مجلات حياة الانسان ويسبر اغواره من اجل الفهم والاستيعاب والإنتاج. انه المجال الواسع والشاسع والذي لا يمكن حده ولا انهاؤه، مادام ذلك مرتبط بالإنسان والمحيط الذي يعيش فيه من كائنات حية أخرى ومكونات الوجود والطبيعة.

لكن يبقى النقاش عن المثقف رهين بالأدوار التي يؤديها في المجتمع ومدى تأثيره في الميدان الذي يشتغل فيه، وهنا مفترق الطرق بينه وبين السياسي. حيث إن المثقف لا يعيش نفس الضغط الاجتماعي الذي يواجهه السياسي، ولا يكون في مواجهة مباشرة مع المواطن في مختلف قضاياه وهمومه، قد يعبر عنها نظريا، وقد يجتهد في رصدها بشكل أكاديمي رصين، وبالتالي فالمثقف يعيش في عالمه الخاص به، يتجول بين الكتب والمكتبات، يقدم محاضرات ومقالات ومؤلفات في قضايا تشغل باله، ولكن على العموم يشتغل في اريحية تامة بالمقاربة مع الفاعل السياسي الذي ينتظر منه الجميع المردودية والنتيجة. وهذا ما ادى الى ندرة المثقف المهتم بالسياسة والمنخرط فيها(بنسعيد)، زد على ذلك التجارب التي مر منها ثلة من المفكرين والمثقفين حيث الجمع بين السياسة والثقافة في قبعة واحدة، وخصوصا لدى اليساريين والتي غالبا ما باءت بالفشل عززت طرحة ابتعاد المثقف عن السياسة، وازدادت الهوة بين المجالين بالاهتمام غير الكافي للدولة بهذا الجانب، سواء تعلق الامر بالميزانيات المرصودة للثقافة، ام الاهتمام الكبير بمكونات الثقافة ومرتاديها، ولعل ما يعيشه جزء من المهتمين بالثقافة في الجانب الفني من أوضاع اجتماعية مزرية توضح بجلاء موقع الثقافة في سياسة الدولة، الامر الذي يجب ان يعاد فيه النظر.

انه من الطبيعي ان نعيش أزمة ثقافية في عصرنا، بالنظر الى مجموعة من المؤشرات والتجليات التي تبرز ذلك، فبعضها تمت الإشارة اليه من خلال الوضع الذي يعيشه الفن والفنانين، وضع مترد ومزري وذلك راجع الى غياب نظرة شمولية للفعل الثقافي، توضح خارطة الطريق وتبرز المقومات التي يتأسس عليها، والذي سيمكن رواد هذا المجال من فهم الواقع والمآل.

أما عن مؤشرات أخرى فهي تظهر من خلال منسوب الوتي لدى عموم الناس، زد على ذلك مستوى التعامل مع الكتاب والقراءة والمطالعة والتي بينت مجموعة من الدراسات الأرقام المخيفة في العزوف وعدم الاقبال على الكتاب، ولعل ما نراه من حضور وتفاعل مع الندوات العلمية والمحاضرات من حضور جد متواضع لدليل على هذا الامر. على اعتبار ان الاقبال على الفعل الثقافي يكون شكلا ومضمونا، كما ان المردودية المدرسية وضحت بجلاء ضرورة اعادة النظر في أنماط التفكير وطرائق التعليم والاهداف الاستراتيجية له، نحن بحاجة الى صناعة انسان مثقف وواع، قادر على تحمل المسؤولية ومواجهة كل الصعاب التي قد تعتريه وتعتري الوطن، وهذا لن يتأتى إلا بالفكر والعلم والمعرفة، لان المجتمعات المتقدمة تتقدم بالعلم وتتطور بما تمتلكه من منسوب الوعي والثقافة.

ومن جهة أخرى فإنني لا أوافق الفئة المثقفة من المغاربة الموقف المتخذ تجاه السياسة، فالابتعاد عن مجال السياسة سيولد لا محالة فراغا كبيرا وسيمكن فئات أخرى اقل أهلية من ممارسة السلوك السياسي بقوالب مغايرة للمطلوب، والأوضاع المتردية التي تعيشها الأحزاب السياسية اكبر دليل على ذلك. في الوقت الذي قرر فيها المثقف المكوث في مكتبه وتقديم كل اشكال الانتقاد وعدم الرضي بما يجري وحده غير كافي، بل من المطلوب منهم الانخراط الكبير والقوي في دواليب السياسية، والتواجد في مراكز القرار، والاسهام في بلورة السياسات المناسبة للمجتمع.

بالنسبة للسياسي

الذي يهمنا في هذا الجانب ليس الحديث عن السياسة بشكل عام، بل نريد ان نقيس الوضع السياسي في ظل غياب فئة مهمة من المجتمع من مزاولتها، العزوف السياسي من لدن العلماء والمفكرين والكتاب بشكل عام.

ان الوضع الذي يتواجد عليه رجل السياسة مختلف تماما عن وضع المثقف. ذلك أن المثقف يعيش هامشا من الحرية في التعامل مع القضايا، ولا يخضع للضغوطات التي يعيشها السياسي، بل يمكن القول بان المثقف قد يكون قوة ضاغطة على السياسي من خلال كتاباته او محاضراته، وبالتالي فالسياسي يشعر بالذنب اكثر من المثقف(بنسعيد)، وفي ظل غياب المثقف عن السياسة فإننا بصدد ما يسمى بموت السياسة والافتقار الى المضمون والمحتوى، فتصبح السياسة بلا معنى.

ان هذا النقاش ليس وليد اللحظة بل هو نقاش منذ الازل وكتب فيه العلماء والاساتذة في مختلف مناحيه، ولعل ما تقدم به العالم السوسيولوجي ماكس فيبر في كتابه عن العالم والسياسي، وحول الاشتغال في المجالين، مع ابراز الاختلافات الواردة بينهما، والذي يعد من اكبر الاعمال التي تطرقت للموضوع بشكل مستفيض. والذي ما زال يعج بالمنطق الازموي، بالنظر الى القلق الفكري والواقعي الذي يشكله، وبالنظر الى الانتظارات اللامتناهية التي للناس من ورائها.

يبقى السياسي دائما على المحك، مادام الامر يتعلق بمردودية منتظرة منه، من هنا يعيش تحت ضغط الناخبين وعموم المواطنين، زد على ذلك ما يربطه بالسلطة المحلية التي تشرف بجزء من أعماله أو مع باقي الفاعلين المدنيين والحقوقيين… ولا لا يمكن اهمال ما أصبحت تلعبه شبكات التواصل الاجتماعي من أدوار مهمة وحساسة في تقييم أداء السياسي ورصد كل الإخفاقات التي قد يقع فيها، إنه المجال الذي استوعب ما لم تستوعبه المؤسسات الرسمية، وتمارس فيه السياسة على نطاق واسع. في الوقت الذي نجد فيه المثقف يشتغل بأريحية تامة ويستعرض ما بجعبته داخل العالم الافتراضي، ولا يكون موضع محاسبة أو مساءلة.

وأعتقد أن ابتعاد المثقف عن السياسة هو الرغبة في الابتعاد عن ما قد يعكر صفوه، ويؤثر على مكانته التي اكتسبها في المجتمع، خوفا من أن يجد هوة كبيرة بين ما ينظر له والفعل السياسي، ولعل تجربة بعض الأساتذة الجامعيين الذين خاضوا تجربة الانتماء الحزبي والتي لاقت انتقادا كبيرا من طرف الرأي العام، لدليل على حساسية الأمر وصعوبته، فليس من السهل الجمع بين القبعتين في نفس الوقت، الشيء الذي سيؤثر على مكانة الواحدة منهم على الأخرى، وبالتالي يصبح أفق التفكير والتعبير محدودا.

بين الديني والسياسي

النقاش اليوم في ما بين الديني والسياسي من علاقة ليس وليد اللحظة، هو نقاش منذ الازل، عرفته كل الأمم والشعوب، كان دائما محط جدال، واخد ورد. نقاش غالبا ما يكون موشوما بالحساسية والصعوبة، مادام ذلك قد يتضارب أحيانا مع المصالح الخاصة بفئة معينة. لكن اليوم وبعد ما بلغه الانسان من تطور وتقدم في مختلف العلوم والمجالات، لم يعد الامر محظورا، ولا خطا احمرا، بعدما انكب عليه الباحثين والدارسين من مختلف التخصصات. في علاقة مباشرة بما يهم المجتمع ويقيسه من مختلف جوانه.

ان التفكير في موضوع ما بين الديني والسياسي من صلة يدعونا الى التأمل اليوم في الاحداث السياسية، والنقاشات المستمرة في المجال، وفي بداية الامر لا أفهم كيف يمكن الفصل بين الديني والسياسي في الحياة العامة للناس، كيف يمكن ان تمارس السياسة دون استحضار البعد الديني الأخلاقي في التعامل مع قضايا الناس، وإلا فسيكون الذي يمارس السياسة يتعامل بمنطق جاف لا مكان فيه للإنسانية ولا التضامن، بمعنى انه مادام الانسان يدخل غمار تدبير شؤون عامة الناس ومصالحهم، فلابد ان يستحضر القواعد الأخلاقية والقانونية معا، وأن يمزج بين الامرين كلما اقتضت الضرورة ذلك، مع الحفاظ دائما على العلاقات الخارجية الأخرى التي يتم استحضار ابعاد أخرى.

وإذا عدنا الى الثقافات والأمم السابقة، فنجد منظروها يؤكدون على العلاقة الجدلية بين الجانب الأخلاقي والسياسي، وذلك باستحضار البعد الروحي في تدبير شؤون الناس وهي الطريقة المثلى لإيجاد حلول لمعضلات اجتماعية قاهرة، فنجد على سبيل المثال المفكر السوسيولوجي ماكس فيبر في كتابه الروح البروتستانتية يوضح بشكل دقيق أهمية استحضار البعد الروحي في قضايا الناس، وبالتالي فالعقل الحداثي اعتبر الدين عامل أساسي في السياسة، وأعطى بذلك مثال تعامل الناس مع الادوية عموما، إنه بعد قيمي أخلاقي سيكون هو الملاذ في حل بعض المشكلات.

ان الوازع الديني الأخلاقي حاضر لا محالة في كل المجتمعات، ويستطيع أي انسان سوي ان ينكر جوهرية الدين في السياسة.

وبخصوص السياسة وبالرجوع الى أصولها ومنظريها من غير المسلمين، فنجد ان معظم المتكلمين فيها استحضروا الوازع الأخلاقي في السياسة، وأكدوا على التماهي الحاصل بينها، فبدءا بالفيلسوف اليوناني افلاطون الذي كتب في السياسة من خلال كتاب الجمهورية، والذي تحدث فيه عن مواصفات الدينة الفاضلة التي يجب ان تتوفر فيها جملة من الشروط لقيامها، واكد على البعد الروحي وحضوره القوي في دواليب الدولة. ان الآراء التي مالت الى استحضار الوازع الديني في السياسية، جعلت من امر تدبير الشأن المحلي وسطيا في التعامل مع الأمور، الا ان المفكر ميكيا فيلي نيكولاس جاءت بموقف ثوري حاول من خلاله التأكيد على استعمال كل الطرق التي تحافظ على السلطة سواء المكر والخداع او الحيل، وبالتالي فهو نظام لا يراعي لمصالح الناس بقدر ما يحفظ مصالح الحاكم. ان السوسيولوجية الحديثة انفتحت بشكل كبير من خلال الكتابات التي برزت أوجه التقاطع والاكتمال بين الديني والسياسي ونشير كذلك الى كتاب ” السوسيولوجية الدينية” لكاتبه ارنست ترولتش.

والسياسة داخل الفكر الإسلامي واضحة تمام الوضوح في مراحل تاريخ الدين الإسلامي، ابتداء من فترة النبوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كانت مرحلة تدبير لنشر الدعوة والرسالة مبينة على أسس في روحها تبدو سياسية، من قبيل التدرج في الدعوة والترغيب، وتبسيط الأمور لكي تكون مقبولة لدى الاخر، ولو حنكة النبي ودهاءه ما استطاع ان يشق صف قريش بجبروتهم وقوتهم ومكرهم. انها السياسة بعينها، وكذلك الصحابة الذين جاءوا بعد النبي، حيث حذوا حذو الرسول عليه الصلاة والسلام، واجتهدوا في تسيير شؤون الناس، وخصوصا المرحلة الحساسة التي رافقت موت النبي واختلاف بعض الاتباع. بيت القصيد في هذا الامر هو توضيح البعد السياسي الذي حضر في كل مراحل الدعوة.

وبخصوص النقاش الدائر في المغرب حول الموضوع، وخصوصا بعد دخول الحركات الاسلامية الى المجال السياسي، اصبح الموضوع واقعا يفرض نفسه، وحقيقة لابد من التعامل معها وخصوصا من طرف المعرضين لهذا الامر، او السعي نحو الوقوف في وجه هذه المسيرة. وبعد الحركات الاجتماعية التي عرفها العالم العربي، من ثورات والمنادات بمحاربة كل اشكال الفساد والاستبداد أفرزت لنا منطقا جديدا نستنتج من خلاله إمكانية ممارسة السياسية بمفهومها الجديد مع الحضور القوي للجانب الديني.

خلاصة القول هو أن هناك نقاش جدلي بين المجالات الثلاث الذي سيبقى مفتوحا طيلة تاريخ الإنسانية، ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن نوقف هذا النقاش الصحي الذي يجعل الإنسانية تفكر في سبل التعايش المستمر بينها، إن التمفصل الحاص بين هذه المكونات هي من تعطي للحياة معنى، وتغني النقاش الدائر وتشجع على استحضار كل الرؤى ووجهات نظر المتباينة، وهذا من صميم كل نقاش انساني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *