مجتمع، وجهة نظر

المهدي المنجرة .. ذكرى رحيل صديق القضايا العادلة في العالم الثالث

المهدي المنجرة

تحلّ بنا اليوم الذكرى السادسة لوفاة المشمول برحمة الله، المثقف الأصيل والأكاديمي النبيل، صديق القضايا العادلة في العالم الثالث، وصاحب التصانيف التي ملأت الدنيا وشَغَلت الناس..، (المهدي المنجرة) مفخرة المغرب وشامة البحث العلمي العربي والدولي.

المهدي؛ حادِي العلم والمعرفة مِن بلاد الأتراح إلى بلاد الأفراح، وَطنيٌٌ غيور ابتهجت الرباط بمولده في عِزّ تَألُّق الحركة الوطنية المغربية، لكن نخبة العاصمة وساسة البلاد لم يبتهجوا بنبوغ (المهدي) ومواقفه وصلابته الثقافية وأُفقه الفكري العالِي عن سقْفها الواطئ.

تَقرّب منها حينًا، مانحا مواهبه لخدمة بلده، خين إدارتهِ للإذاعة والتلفزة المغربية، وضِمن وفد الخبراء المغاربة إلى الأمم المتحدة، وفي مُدرّجات جامعة محمد الخامس..؛ ثم هَجَرها كما هَجَرَتْه، وساحَ في أرض الله الواسعة؛ مُعلِّما، وكاتبا، وخبيرا، ومُحاضرا، من اليابان إلى الفاتيكان.

المهدي _ الذي شَرُفتُ بالتعرف عليه في سِنِي التمدرس بالثانوي التأهيلي، من خلال بعض محاضراته، وكتابه الذائع الصيت “الحرب الحضارية الأولى”، ثم يسر الله قراءة كتابيه” قيمة القيم” و”الإهانة في عهد الميغاإمريالية” فضلا عن مقالات كُتِبت عنه وبرامج عَرّفت بشخصه _؛ هَداه الله للجَمع بين العلوم الدقيقة، والعلوم الاجتماعية، وألْقى في صدره مَحبة المعرفة، واستشراف مآلاتها ومستقبَل الأوطان والإنسان، فلم يَكْـتفِ مما حصّله من علوم اقتصادية وتدبيرية وكيميائية؛ بل ضمَّ إليها الفكر والثقافة والقيم والموقف المُشبَع بروح الإسلام وقيمة الوطنية، فأهّله ذلك ليحاضر في لندن وينال عضوية كبريات المؤسسات العلمية الدولية في نيويورك وباريس وروما وطوكيو، وينضمّ للأكاديمية العالمية للفنون والعلوم، ولِمنتدى العالم الثالث، والإشراف على لجانِ صياغة البرامج التعليمية والثقافية في عدد كبير من بلدان أوربا، التي أعادت معه تجربة استفادةِ أسلافها من ابن رشد وابن الخطيب والغزالي وابن زهر وابن خلدون وكثير من علمائنا ونبغائنا عبر العصور؛ فتلَقّفته وآوته ونَصَرَته، وحاز منها ومن بعض مَثيلاتها في العالم الإسلامي بجوائز وأوسمة عِز وافتخار.. بَعد أنْ ضُيِّق عليه في أرض أجداده، وحُرِم من ملاقاة محبّيه وطلاّبه، وأُبعِد من مؤسسات بلاده؛ وخَرَج خروج الأنبياء من أرضٍ يُضامُ بها ولا يتطهّر كُبراءُها بماء العلم وصحيح الفِكر وصادِق الموقِف ولا يقبلونَ نُصْحًا ولا انتقاداً.

المنجرة؛ جَسَّدَ بمواقِفه وفكره وغزارة إنتاجه واستقلاليته؛ سيرةً مُلهِمة للباحثين، ومَسيرةً طويلةً مُتميِّزةً بالالْتِصاقِ بقضايا الحُريات العامّة وحقوق الإنسان ومواجَهَة بَغْي السُّلطة وزيْغ الثّروة وفساد الأمم المتحدة وشَطط العلم المُنفصِل عن القيم وآفاق التّغيير السياسي والاجتماعي والفِكري في العالم، وانحيازات المنظمات الدولية للأقوى والأجْشَع والأفْتَك بالحرية والحق والضعفاء في هذا العالم.

المهدي لَم يألُ جُهدا في تسخير قلمه ومالِهِ ووقته لتعليم الناس، ونُصح الخاصّة والكبار، والتحذير من مَغـبّات وتبعات الحروب الحضارية، واللَّبْرَلة المُعتَدية على الخصوصيات، والعولمة الجارفة للقيم والعابرة للقارات، والثقافة الغازية والمغْزُوّة على حد السواء.

الأستاذ المهدي؛ شَغَلته جدلية التنمية والثقافة، والتعليم والتنمية، وتحقيق التكافؤ بين الشمال والجنوب؛ سنين من عمره وفِكره، وحاضَر في قلْب العالم الغربي داعيا للحدّ من الصّدع الاستعماري النازل بالعالِم الثالث، وحاضر في قَلب عواصم العالم العربي وفي بلاده المغرب داعيا للعدالة والكرامة والتوزيع العادل للثروات وإنصاف اللغة وتخفيف وطأة التخلف، وشَـنّع على الاستبداد والمستبدِّين، ونادى بالديمقراطية وإنهاء عهود الإهانة في حق المواطِن (ة) العربي..، فَجَـرَّ عليه اجتهاده وإخلاصه وصِدق لسانه غضب النُّخب الحاكمة، وفي المقابِل؛ احتَضَنَـته الشعوب، واحتفى به الطلّاب، وتداوَل النشطاء المدنيون أقواله وآراءه، وغَصَّت جَنبات القاعات وهي تستقبله مُحاضِرا في أكثر من مدينة مغربية، كلما مَنعته السلطات هنا أو هناك؛ لَوّح بشارة النصر، وواصل رحلاته المكوكية بين حواضر البلاد باحثا عن منصّة يُوصِل عَبْرها فكره ومقولاته، وفي الآن ذاته؛ تتهافت المجلات العلمية العريقة عبر العالم على نشْر دراساته ومقالاته المُحكَّمة، والاستفادة من تنظيراته الاستشرافية..

مَسيرة ضَنْكى، وعُمْر عامر بالإنجاز والاستماتة والتحدي؛ هذا هو المهدي. الذي رحل عنا في صمت، وموتٍ صغير!

إننا باستحضارنا (م. المنجرة) في ذكرى رحيله؛ نُعطِي معنًى لمَطلَب (المعرفة التي نُريد)، المعرفة المقترنة بالحرية، والابتكار والإبداع، والمُراعية للخصوصية مع الانفتاح.

نستحضره وصوتنا يَعلو بالدعوة إلى دعم البحث العِلمي الجادّ المفيد، وتقدير المُبدعين الشَّبَاب، واستعمال اللغة الأمّ وتنميتها مع شقيقتها الأمازيغية، والنهْل الناضج من اللغات العالمية والخبرات الدولية، واستنفار العالَم العربي من أجل التّغيير، واستعادة الحُرية وزمام المُبادرة والقيادة والسيادة والعبادة في أفق الرِّيادة.

فالله نسأل أنْ يُنير قَبر الراحل المهدي كما أنار عقولنا وملأ دنيانا علما، وندعو له بالرحمة والمغفرة والحشْر مع الصدّيقين والعلماء والشهداء والصالحين، وأن لا يَفْتِننا بعده، ويجعلنا أوفياء لإرْثه.

* باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان، المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *