أدب وفنون

“طفولة مبدع”.. كفيح: كنت ضمن كتيبة الأشقياء التي جرفها المتوسط الغادر

طفولة مبدع ” هي نافذة نلتقي من خلالها مع المبدعين المغاربة للحديث عن عوالم طفولتهم، وتأثيرها على كتاباتهم، وما الذي بقي راسخا في الذاكرة من ذلك الزمن البعيد، وملامسة حضور تيمة الطفولة في نصوصهم الإبداعية، هي نوستالجيا لزمن البدايات في دروب الحياة.

وحلقة اليوم مع القاص والروائي عبد الواحد كفيح، من مواليد مدينة الفقيه بن صالح، عضو إتحاد كتاب المغرب، من أعماله ” أنفاس مستقطعة” مجموعة قصصية عن منشورات وزارة الثقافة ينة 206، و “رقصة زوربا عبارة عن مجموعة قصصية صدرت سنة 2010 منشورات وزارة الثقافة، من أعماله كذلك رواية” روائح مقاهي المكسيك” عن دار سليكي طنجة سنة 2004 وطبعت للمرة الثانية سنة 2016 بعد نفاذ نسخ الطبعة الأولى، تم مجموعة قصصية صدرت سنة 2015 بعنوان” رسائل الرمال” أما في مجال النقد صدر له كتاب ” تناغمات نصية” عن منشورات الموجة الثقافية، وفيما يلي نصه الموسوم بعنوان” في الطفولة”:

“كلما فتحت نافذة صغيرة، أو كوة ضيقة أطل منها على الماضي استرجع من خلالها لحظات الزمن الجميل، تتناطط ذكريات الطفولة جذلى متقافزة على حافة الذاكرة بفيضها الدافق سحرا ودهشة وغرابة.

مدينتي الفقيه بن صالح بيت الله العامر، التي يحرسها ولي صالح ترقد رفاته باردة تحت الثرى في جوف هذه الأرض الطيبة، و مازال على عهده ووعده كما كان لا ينام حتى يرتوي الظمآن ويشبع الجوعان، ولا يدخلها عابر سبيل في حضرته إلا منحنيا مؤديا الولاء لأهل المكان، فكيف لا تحضننا بملء الحب والدفء الذي حقا نستحقه.

هنا أتذكر سنوات أحلى سنوات عمري الذهبي .نشأت كما كل أطفال حي “القواسم ” أطارد الفراشات في حقول القمح، على مقربة من منزلنا مع كتيبة الخراب التي لاتنام ليلا ولا نهارا، نجمع في عز القيلولة  الحلزون والعقارب، أركض بجسد سقيم، خلف كرة مهترئة أو كبّة أسمال مكورة، عاريا حافي القدمين حتى في الأيام القائظة التي كان فيها الفرخ من شدة الحرارة “يزوي” ويسقط على قنّة رأسه ميتا.

كتيبة الأشقياء نحن نلهث بلا هدف، وفي كل الاتجاهات، مدججين بأحلام بسيطة كأن نتسابق للوصول لقناة الري الإسمنتية التي تتعرج في الحقول فنرتمي في مياهها العكرة، فتحملنا تياراتها الجارفة من تحت القنطرة إلى السفينة و”الهبّاطة” إلى “الزرّابي” ومن عجب العجائب، أننا ما كنا نهتم لمجموعة الأصدقاء الذين يفضلون السباحة عراة، فلا ضير أن تكون بلباس العوم أو “مسفّحا ” لأن السباحة ونحن عراة كانت هي القاعدة ولبس سروال قصير هو الاستثناء،  لأننا ففي الزمن الغابر من طفولتنا اكتشفنا ذات صدفة، و في واحدة من أغرب الغرائب وفي لقطة نادرة لا يجود بها الزمن مرتين، أن صديقا لنا يلبس تبّانا بل سروالا قصيرا تحت سرواله، فكانت بالنسبة لنا مفاجأة اندلقت لها الألسن وفغرت لها الأفواه وجحظت الأعين من هول الصدمة، متسائلين في استنكار: هل يليق بولد ذكر أن يلبس مثل هذا ؟ فما كان منا إلا أن تحلّقنا حوله ولبثنا هكذا في شبه طقس وثني نردد مواويل الفجيعة كالنادبات على فعلته الشنعاء، اعتقادا منا أنه جاء بشيء فريّا ههه هأْ هأْ هأْ.

وهكذا نظل معرضين إلى لهيب شمس يطيب الأمخاخ في الجماجم، غير عابئين بالمارة ونحن على هيئة الهنود الحمر نتصايح ونرقص ونتناطط، ثم نأخذ حمام تراب لافح “نتمرمد” فيه كما لو كنا على شاطئ رملي، ثم نعود للقناة نلقي فيها بشغبنا، وأبناء مدينتي هؤلاء، كتيبة الأشقياء أعني، هم الذين قاعروا البحر واجتازوا المضيق اللعين سباحة للضفة الأخرى، وأبانوا عن شجاعة وشهرة عالمية في اكتساب قوتهم اليومي من عرق الجبين، وهم أنفسهم أولئك الذين عاركوا أمواج البحر بضراوة، وملأوه ضجيجا وصراخا وزعيقا وقضوا متوسدين صخور المتوسط الغادر.

.نفس كتيبة الشقاوة جمعتنا حجرة درس وحيدة قريبة جد من حينا في “لارمود” لا نفترق أبدا وكأنما ولدنا لنعيش كتلة واحدة كما الصوف يدفئ بعضه بعضا، نقتسم كسرة خبز ونتناوب جميعا على تذوق قطعة جبان كولبان ومص ثليجة ” اسكيمو “واحدة دون اشمئزاز ولا بخ ولا عدوان، وهؤلاء هم أنفسهم الأطر العليا المغربية الكُفأة والمثقفون الكبار الذين يشرفوننا في كل المحافل الدولية باقتدار وبهم نفخر ونعتز أيما اعتزاز.

وفي بيت بطريركي تسوده الصرامة البالغة حد القسوة المؤلمة، ولما كان يتمتع به والدي من عزة نفس وإباء، والكاريزما والصرامة التي تلازم محياه، والذكاء الخارق وماضيه المجيد كمقاوم ابن مقاوم، جعلني -على مر السنين- أعتقد أنه يعرف القراءة والكتابة لما كان يبديه من انتباه وإصغاء تام ، وانزعاج في بعض الأحيان، وأنا استظهر بين يديه دفاتر باكملها متفاديا أن أفقد رزانتي وأبول من شدة الخوف في سروالي، هو لا يفقه حرفا واحدا، يأخذني قابضا بقوة على زند يدي، للفقيه بالمسيد -الذي كان مكتظا بنفس كتيبة الأشقياء- فيأمره بلهجة صارمة أن يقوم مكتسباتي، ويعرض عليه تقريره مفصلاً غير منقوص وهو لا يفرق بين الألف والزرواطة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *