أدب وفنون

“طفولة مبدع”.. الخصار: عالمي تشكل من أرمونيكا ودارجة زرقاوين وأحلام عابرة

طفولة مبدع ” هي نافذة نلتقي من خلالها مع المبدعين المغاربة للحديث عن عوالم طفولتهم، وتأثيرها على كتاباتهم، وما الذي بقي راسخا في الذاكرة من ذلك الزمن البعيد، وملامسة حضور تيمة الطفولة في نصوصهم الإبداعية، هي نوستالجيا لزمن البدايات في دروب الحياة.

وحلقة اليوم مع الشاعر والكاتب عبد الرحيم الخصار من مواليد مدينة آسفي، تم اخياره سنة  2010 من منظمة هاي فستفال ببريطانيا ضمن أفضل الكتاب الشباب العرب، من أعماله، “أخيرا وصل الشتاء” 2004، و”أنظر وأكتفي بالنظر” 2007، صدر له كذلك “نيران صديقة” 2009، و”بيت بعيد 2013، و”خريف فرجينيا” 2017، و”عودة آدم” 2018، “القبطان البري” 2020، فيما يلي نصه الموسوم بعنوان “أرمونيكا زرقاء”:

-1-

أرمونيكا وعمود كهرباء، هذا كل ما أذكره عن تلك السنوات التي صارت بعيدة جدّا، على الأقل بالنسبة إلى رجل أدركه باكرا ضعف الذاكرة.

أرمونيكا زرقاء، وعمود كهرباء كان أحنّ عليّ من الذين سأعرفهم فيما بعد، قاعدته الضيقة كانت مسرحا لأحلامي التي لا حدود لها، الأحلام التي سترخي بظلالها على ساحة المدرسة وهضاب القرية، وعلى حاضري أيضا، وربما هي التي ستضيء تلك المغاور المعتمة والغامضة التي نسميها المستقبل.

أرمونيكا زرقاء بين يدين باردتين وشفتين صغيرتين تتهجيان، دون أن يدري صاحبهما، الحروف الأولى في لغة الحب.

كنت أجلس هناك وأعزف، و حين تسمع هي صوت الأرمونيكا تفتح النافذة وتطلّ بشعرها القصير، الشعر الذي جرجرني خلفه طويلا في صحار ومفازات كنتُ صغيرا جدّا على اجتيازها، نافذة صفراء بقرب نافذة أخرى على جدار أصفر باهت خلف سور أصفر قصير، غير أني وسط تلك الصفرة لم أكن أرى سوى اللون الوردي الذي ينساب مع الكلمات المهموسة المتقطعة التي ألتقط بالكاد قليلا منها.

بين السور والنافذة كان يتمايل صف قصير من الصنوبر وثلاث أوكالبتوسات وشجرة زيتون وحيدة، في صباح خريفي جلست أعزف لكنها لم تطلّ، كانت تعرف وقت مجيئي: الظهيرة، اعتاد سكان الحي على أن يناموا بعد الغذاء، بينما كان الحب يستيقظ حينها في قلبي، أكثر من نصف ساعة ولم تظهر بعد، اشتدّ عزفي وتألم خداي الصغيران، أخيرا فتحت النافذة ولوّحت لي بابتسامة رُسمت ببالغ العناية على شفتين تتوسطان وجهها الناعم الذي يشرق من إطار معلّق في الهواء.

كثيرة جدّا هذه النشوة على طفل لم يكمل بعد عامه الحادي عشر، طفل يستند إلى عمود كهرباء ويعزف على الأرمونيكا كي تطلّ فتاته من نافذة صفراء، وتلوّح له بيدين صغيرتين جدّا على الحب.

لم أكن قد قرأت حينها روايات القرن التاسع عشر، لكنني أدركت فيما بعد أني كنت أعيش هناك، وأتدفأ بخشب المواقد الذي يشتعل بين صفحات إحدى تلك الروايات.

-2-

على ربوة صغيرة تتوسط حديقة المنزل كان يجلس طفل يحلم طوال النهار، تحت شجرة توت، أن يملك دراجة، كان للتوت حينها طعمه الحقيقي، وليس الطعم الذي تمتلئ به صفحات عديدة دبّجها رعاة الوهم في كتبهم، أولئك الذين جعلوا طعم التوت استعارة لطعم الجسد، لم يكن الجسد آنذاك أبعد من جسد دمية، هشا وبريئا، جسد لين في أيدي النسيم وخائف في الآن ذاته من صفعة مفاجئة تأتي في الغالب من الذين نحبهم.

أريد دراجة، وحين سأضع قدميّ على دواليبها ممسكا بالمقود سأكون شبيها تماما بالأمير الذي يمسك لجام فرسه، ويجوب الغابة بحثا عن محبوبته التي حوّلتها الساحرة الشريرة إلى ضفدعة.

أريد دراجة زرقاء، وحين ستلامس يداي سرجها الدافئ ستكون مشاكل العالم قد حلّت، كانت ابنة جارنا الغني تمرّ بدراجتها الجميلة وتغيظني، لم تكن تعرف، وهي تفتح فمها على ابتسامة بلهاء، أنها حين تدوس أعشاب اليانسون التي تفصل بيتنا عن بيتهم إنما تدوس أعشابا أخرى طويلة وشائكة تنمو بداخلي.

دراجة زرقاء تطأ بعجلاتها الصغيرة العشب الذي ينمو ويتكاثر في الجوار، دراجة فحسب، تتحرك بي وئيدة على طريق ضيقة تفصل الغابة عن حقول القمح، وتمرّ بي من أمام دار “الأرموند” ومستوصف قديم منذ أن فتحنا أعيننا و نحن نسميه “زارابا”، وعبر الشارع المؤدي إلى الشمال توصلني إلى شجرة أوكالبتوس كنت أحب أن أرسم على جذعها العريض قلبا، وأنقش فيه اسمي واسم الفتاة التي كنت أعزف من أجلها على الأرمونيكا.

-3-

كيف أعيش هذا الحب دون أن يكون لديّ مكتب؟ نعم، لن أكتب بعد اليوم على طاولة الطعام ولن أضع مؤلفا صلبا على فخدي وأنا مستند إلى الحائط كي أكتب، لا بدّ لي من مكتب، العاشق الصغير يلزمه مكتب يخطّ عليه رسائله إلى فتاته ذات الشعر القصي، من أجل ذلك الشعر القصير سيكتب رسائل طويلة كأشجار الأوكالبتوس وغزيرة كالمطر الذي يسقط خلال شهر نونبر في حديقة المنزل.

أحضرتُ صندوقا للخضر، وغطيته بمنديل بلاستيكي مقوّى وأبيض اللون، هذا هو مكتبي الجديد، وعلى الأوراق المتناثرة فوقه سأضع سيناريوهات كثيرة للّقاءات المقبلة، كتبت رسالة طويلة وأودعت فيها كلّ أسراري، ولها الآن أن تردّ وتكتب كلاما يشبه كلامي، بدل أن تلوّح لي كل ظهيرة من نافذة صفراء في جدار باهت.

كنت أجلس متشابك الساقين داخل فراغ المكتب، وعلى سطحه أقلّب صفحات من “الأجنحة المتكسرة” لجبران وأختار كلمة من هنا وأخرى من هناك، أبحث عن الكلمات الأكثر تأثيرا، الكلمات التي لا يمكن أن يعقبها الصمت.

كان جبران صديقي الأكثر جمالا، كنت أعتقد وأنا أقرأ له أن العالم كلّه حدائق ومعابد وصوامع وأرواح شفافة، وأن الحروب والأمراض والكوارث ليست إلا كابوسا صغيرا يمرّ بشكل خاطف وسط هذه الأحلام.

وحين أفلس والدي وباع المنزل الذي يضمّ أكثر من خمسين شجرة، أصبحت أحس بأن العالم كوابيسُ لا حصر لها، وأن الحلم هو العابر الخاطف الوحيد.

ليس في هذا الحي الجديد شجرة توت أو رمان، ولا فتيات يدسن بدراجاتهن الزرقاوات أعشاب اليانسون، هناك فقط وجوه بائسة وصنابير لاماء فيها.

في ليالي الشتاء الباردة، كنت أستلقي على ظهري مصغيا لنحيب المطر في الخارج ولنحيب الذكريات بداخلي، حيث لا أوكالبتوس ولا دراجة ولا أرمونيكا زرقاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *