وجهة نظر

مراسيم الوداع

في دروب هذه الحياة التقينا، ومضى الزمان ومضينا، لنجد أنفسنا غير ما مرة وعلى حين غرة على مفترق طرق الرحيل…

لحظات وأوقات عمت بأسبابها كل الناس: حبيب يفارق حبيبه، عزيز يودع احبابه، كبير يفارق صغيره، ابن يودع أمه، عريس يخلف موعد زواجه مع عروسه…. طرق مهما تعددت وتشابكت إلا انها تلتقي في نقطة الوداع والفراق.

*فأما الوداع… بحلقاته المرة ضمن مسلسل “الحزن” ، فمازلت أذكر كما اليوم، أول حلقة ، وهي عندما نزل خبر رحيل والدي علي وانا بعد طفلة….. لا يطاوعني القلم كي أصف شعوري يومها بل أسبوعي بعدها…. لا حرم الله طفلة من والدها!

كما اذكر بعدها ببضع سنوات، كيف ودعنا إخوة في مقتبل العمر، وشابين يستنكف القلم عن رثاءهما …. وخال في كامل عنفوانه وعم بمثابة الأب .. وأخت أقرب إلى الام منها للأخت…

مسلسل من “وجع الردى” صار لعائلتي معه حكاية.

أي نعم، عرانا الخطب لكننا سلمنا للذي أجرى القدر، محتسبين صابرين ومتصبرين…

لكن ومع كل خبر موت ولو لبعيد كما يقع في العالم مع وباء “كورونا” الذي-سيحفظ التاريخ ولا شك- أن معركتنا معه منهكة،كونه نخر أجسام الكثيرين… وأخذ أرواح العديدين ولم تمهلنا “ظروف الطوارئ”ان نودعهم بطقوسنا الشرعية المعتادة …

قلت، مع كل خبر موت تتفتح جراح الفراق، وتدور في الذاكرة مراسيم الوداع الأخير لكل عزيز، ليحط على الجفون وشم الأرق … فيقتات الحنين نصيبه منا وتأكل الحيرة نصيبها من دواخلنا …

لحظات عصيبة، ومواقف بهتت لها أيامنا من فرط الألم…

فصرنا و الأدبية غادة السمان سيان … حين كتبت معربة عن آلام الفراق :(مرصودة انا لوداع أحبائي فأنا عاجزة عن إلقاء القبض عليهم، وأتقن جدا فنون الألم لفراقهم..)

قلت، بهتت أيامنا، فبهتت سعادتنا، وبهتت نجاحاتنا،وبهتت أفراحنا تماما كما أيامنا هذه في زمن “كورونا” حيث كل منا يستهلك الوقت على نحو مخالف للمعتاد، مادام المطلوب ان تتخلى طوعا عن حريتك وتبدل طقوس حياتك، وتبتعد تحسبا من خطر محتمل قد يباغثك…

وبكلمة، لقد سلمنا بقساوة الحياة قبل كورونا…. و ها نحن اليوم نوقع في دفتر “الاعتراف بالنقص ” ان هذا الفيروس أيقظنا من كبرياء أنفسنا بعظمته…

*وأما الفراق، وهو البعد الموسمي الذي قد يمتد في الزمن وقد يقصر، فقد تجرعنا كأسه أيضا غير ما مرة…، خلال سفر أصدقاء وجيران وخلان، طال غيابهم عنا الي اليوم…. ومع رحيل أصدقاء – كانوا أقرب إلينا من الإخوة- الى مدن بعيدة داخل وخارج الوطن، بغاية طلب العلم ثم استقروا هناك، وأخذت ملاهي الحياة منا ومنهم، فمنهم من باع الأسرة وباع الجيران وطلق الوطن… فبعناه قبل أن يبيعنا في سوق الخذلان…..

لهولاء فقط اقول :”شكرا على إهدائكم لنا الرحيل بدلا من الورد”

ومنهم من اشترى الود، وصان العهد ومايزال على نبلنا وجميل ذكرياتنا عاضا بالنواجد…فلا المسافات بدلته ولا صروف الزمان عنا شغلته، وهم كثر ولله الحمد!

لهؤلاء تحديدا اصيح بصوتي الصارخ : “لو جيل من الزمن فرقنا، سيجمعنا بكم حنين ورسائل و هواتف…. والأجمل منها جميعا أدعية بظهر الغيب ، سيجمعنا بكم “الوفاء” فنحن لا نبيع من اشترانا، ولا نرخص من غلانا…”

لأجل هؤلاء، لأجل وطن آمن من الشرور والأحقاد، لأجل الابناء والإخوة والجيران، لأجل الأصدقاء والزملاء والخلان، سنرتدي قفازات الأمل، سنعلق على كل نوافد الحقد والكراهية والخذلان كمامة، وسنعقم دواخلنا برذاد الوفاء والحب والامتنان، وسنتحصن برحمة رب الشفيع العدنان….

مهما كبرت اوجاعنا، مهما كثرت بيننا مراسيم الوداع سنضمدها بالحمد لله… حتى تمر بإذن الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 4 سنوات

    الحمد.لله على كل حال لا فاجعة مع حسن الختام . اللهم ارزقنا الثبات وقوة الإيمان.