منتدى العمق

كلام مدان !

الضّياع ليس حالة مادية مهترئة فقط .. إنه خروج من كيمياء الكون النظرية وإسراء لذاتك العميقة التي ستكتشف دواخلها بعد أن تجتاز مغريات الهزيمة الأولى، إنّه مرحلة انتقالية تشبه لحدّ كبير فوضى خلاّقة .. 

إنّه بالنهاية إما أن يصنع منا حكماء بالصدفة أو أرواحا غير صالحة للحياة البتّة، إنه يشبه مستحضرا حيويا ينبث في داخلك من دون إذنك، يفرض عليك فتوحات مغولية تجتثّك من سراياك وترميك مكرها لمختبر حيث الإيقاعات غير مألوفة والصولفيج متآمر مع شجيرات صبّار مكسيكية متعجرفة! 

فالضياع بالحقيقة مجموعة من الحسابات القديمة التي كنتَ تؤجّلها بدعوى الحياة، فحين ينتهي مخزونك من الوجود تظل حيّا وتمنح الرّبيع إجازة وتمضِي مع اللاشيء وتصير أبعاد الزمان والمكان نسبية وتغدو نسبة حظوظك في السّقوط مرتفعة ويصير لكلّ كلمة معنى ومبنى، وتحسّك مستهدفا وكأنّ هيكل كلاشينكوڤ مُصوّب نحوك وتطوّر أجهزة إشعار متقدّمة في تحليل حركات وسكنات البشر من حولك ..

فتبدو نشرة الطّقس كاذبة وتصير كل أيامك يوم أحد، ولا يضيف بعدها سكون الليل ولا ضوضاء الشارع بالنسبة لك أي أمل .. لأنك حينها تكون في عالم تجريديّ لا يتيح لك رؤية ملموسة وحيّة للأمور من حولك .. فتكون على استعداد لأي شيء وحتى لهضم الاعتباطية في نظرية الأكوان المتوازية والتودّد لقطّة ” شرودنغر” وتقيّؤ المعقول في نظرية الإشراط الكلاسيكي لـ ” بافلوف ” وكلبه   !

فتشتّت الروح ليس اكتئابا ولا حزنا بدستور المشاعر المرئية بهذا العالم، إنه أكثر من ذلك ..إنه أشبه بنسخة مصغرة عن الإنفجار العظيم أو مرحلة متقدّمة من مرض ” الثلاسيميا “، إنه محض حياة اعتزلتها الأصباغ الأساسية وعمّدتها الضبابية في مواسم الحزن الباردة، فصارت دلالاتها متقيحة كتلك الحقيقة في بيت ” المعتمد بن عباد ” حين قال ” قبّح الدهر فماذا صنعا، كلما أعطى نفيسا نزعا ” .

وشتات النّفس الحقيقيّ لا يحتاج حلولا فورية، لأنّه واجب على الروح كالذّهاب مكرها لتمضية الجندية، ولأنه اغتسال من وبر الروتينية ودرن الإستياءات الصغيرة، فهو يحتاج فقط علاقة حميميّة مع الخالق لإتقان الغرق في العمق بشكل راق و للخروج منه معافين كما يخرج مريض سرطان من العلاج الكيميائي، ولا يهمّ حينها كم وفّرنا من كيلوغرامات على الميزان بقدر ما يهمّ كم من ولادة جديدة صنعناها وكم من فكرة جديدة خمّرناها من أجل العود الأوّلي للفطرة الإنسانية ..

الضّياع هو أسوء ما يمكن أن يبتلى به بشر، حاول أن لا تضيع و إن كان يجب أن تضيع.. ضِع بالزّحمة !