وجهة نظر

في الذكرى الـ20 لانتفاضة الأقصى.. ماذا بقي من فلسطين؟

مِنْ أجلهم، لن ننسى.. لن نغفر.. لن نسامح.. الى كل القابضين على الجمر.. الى كل الظاهرين على الحق.. الى كل القاهرين لعدوهم رغم ما أصابهم من لأواء.. إلى كل الباذلين مُهَجَهُمْ واموالَهم وأرواحَهم في شتى بقاع الأرض عموما، وفي فلسطين خصوصا، دفاعا عن الحق وذودا عن الحرمات والمقدسات.. الى كل القابعين في سجون الظالمين، فلم ينحنوا ولم يتراجعوا وظلوا بالحق مستمسكين.. إلى كل من شُرِّدُوا من اوطانهم ظلما وعدوانا، فظلوا بحتمية العودة موقنين… الى كل الحالمين بالحرية والعدالة والكرامة، والى فَلَقِ صبح الفرج ناظرين، ولِتَنَفُّسِ صبح العزة منتظرين.. ستبقون أحبتي شعلة من ضياء.. تُبَصِّرُون شعوبَكم بالمنحدر.. عندئذ يسقط الظالمون، وتهتف شعوبُنا من فوق الحفر:

“إذا الشعب يوماً أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر” ….

(1)

كُنَّا هناك.. أعنى نحن الجماهير العربية في الداخل الفلسطيني – 1948.. كنا هناك يوم انطلقت شُهُبُ انتفاضة الأقصى عام 2000، لترسم مشهدا جديدا بلون الدم والمعاناة، ولتسجل صفحة مشرقة إضافية من البطولة والكبرياء، والعظمة والإباء.. كنا في المسجد الأقصى المبارك (القيادة العربية وأمواج متلاطمة من أبناء شعبنا)، في ذلك اليوم الأسود الذي اقتحم فيه رئيس المعارضة في إسرائيل يومها (أريئيل شارون) جزار قرية قبيه ومخيمي صبرا وشاتيلا، المسجد الأقصى المبارك، في حماية الآلاف من عناصر الأجهزة الأمنية الصهيونية المدججة بالسلاح… كانت لحظات فارقة في حياة شعبنا وأمتنا.. كانت الدنيا في انتظار ما سيحدث بعد ان فشلت مفاوضات كامب ديفيد الثانية التي أراد الامريكان (بيل كلينتون) والإسرائيليون (ايهود باراك)، ان يفرضوا فيها على القيادة الفلسطينية (عرفات) حلولا لا تُلَبِّي الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، وتتركه بعد صراع دامَ قرنا كاملا من الزمان في وضع أشبه ب – “حكم ذاتي محسن”، دون دولة، ودون قدس وأقصى، ودون لاجئين ودون سيادة، ودون حدود، ودون ارض ولا سماء..

كان مجتمعنا العربي الفلسطيني هناك في انتفاضة الأقصى التي اندلعت شرارتها في أرجاء فلسطين في الثامن والعشرين من شهر ايلول من العام 2000، جاء بعدها قرار لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية داخل الخط الأخضر الفلسطيني، نهاية أيلول 2000 اعلان الاضراب العام في اليوم التالي.. نجح الاضراب تماما، وخرج عشرات آلاف الشباب في كل المدن والقرى العربية في هبة عارمة خاصة بهم سميت ب – (هبة القدس والاقصى)، تعبيرا صادقا عن احتجاجهم السلمي على مجازر الاحتلال الإسرائيلي ضد أهلنا في فلسطين المحتلة بما في ذلك القدس والاقصى، وتضامنا مع نضالهم المشروع لدحر الاحتلال وتحقيق الاستقلال.. يبدو ان قرار الحكومة الإسرائيلية برئاسة ايهود باراك كان واضحا: منع المظاهرات بكل ثمن، والتعامل معها بلا هوادة، وضربها بيد من حديد!! فتحت الأجهزة الأمنية والشرطية النار على المتظاهرين السلميين، فسقط منهم ثلاثة عشر شهيدا، لم يحظوا حتى الآن بالقصاص العادل من قتلتهم الذين ما زاولوا أحرارا بعد ان قرر قسم التحقيق مع الشرطة في وزارة العدل اغلاق كل الملفات ضد الجناة، وتسجيلها ضد “مجهول!!!”، لتبقى أرواح الشهداء الثلاثة عشرة وأسرهم وشعبهم وأمتهم، تنتظر العدالة الغائبة او المفقودة في الدولة العبرية..

(2)

توقف الزمان مندهشا من عظمة المشهد، وعبقرية اللحظة التي صَعَقَتْ صُنّاع القرار الأمني والسياسي في إسرائيل.. لم يفكر أحد منهم في أكثر أحلامه كابوسية أن الشباب العربي الفلسطيني الذين وُلِدوا في الدولة العبرية، وتعلموا في جامعاتها، وتحدثوا لغتها، وعايشوا يهودها، ما زالوا على تلك العلاقة المتميزة والعميقة، وذاك الولاء الذي لا يساوِم لفلسطين وطنا وشعبا ومقدسات، وعلى ذلك الكره الصارخ لسياسات التمييز العنصري والقهر القومي الإسرائيلية، وهذا الاستعداد للتضحية في سبيل المبادئ العليا!… نسي هؤلاء الحالمون أنَّ ضربة الجلاد التي ذاق شبابُنا العربيُّ الفلسطيني مرارَتها عنصريةً وقهراً وتمييزاً في كل نواحي الحياة، وان النظر إليهم كطابورٍ خامس، والتعامل معهم على اعتبارهم أعداء، عَلَّمَتْهُم ان يُنشدوا: (علمتني ضربة الجلاد ان امشي على جرحي، وأمشي، ثم امشي وأقاوم) …

نجحت إسرائيل في تهجير الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني اثناء نكبة العام 1948… صادرت أكثر من 97% من الأرض.. هدمت أكثر من 500 قرية ومدينة فلسطينية.. حاولت أن تمسح من الوجود كل ما يدل على الهوية الاصيلة لهذا الوطن الذي كان يسمى فلسطين، وصار يسمى فلسطين، وسيبقى يسمى فلسطين..

مارست إسرائيل على مدى عقود سياسة كَيِّ الوعي الفلسطيني على امتداد الجغرافيا الفلسطينية وفي جميع الاوقات، إلا انها لم تنجح ولن تنجح في إلحاق الهزيمة النفسية بشعبنا وشبابنا من خلال استخدام القوة والاجراءات التعسفية واعادة الحياة إلى الوراء.. استخدمت اسرائيل القوة المفرطة قتلا وقصفا وتدميرا وحصارا وتنكيلا وسجنا وتعذيبا، إلا أن شعبنا كان يفاجئ دائما بسرعة الخروج من تحت الرماد، والوقوف في وجه بطش وإرهاب الاحتلال بعناد وشموخ رغم الجراح، بشكل أربك الجلاد وخلط أوراقه وبعثر خياراته..

لم تفشل خطط إسرائيل في كَيِّ الوعي الفلسطيني فقط، بل إن السحر انقلب على الساحر، فبدأ شعبنا الفلسطيني حربَ المضادة في كَيِّ الوعي الصهيوني على المستويين القيادي والشعبي، جعل في مركزها أن أي مساس بمقدسات هذا الشعب وثوابته الدينية والوطنية، ستأخذُ إسرائيلَ والمنطقةَ الى المجهول.. زاد البطشُ الصهيونيُّ عزمَ وإرادةَ الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، مضاءً وبهاءً وعنادا وشموخا..

استغرب من عمق غباء القيادة الإسرائيلية الحالية (نتنياهو وحلفاؤه)، التي تعتقد انها بتجاوزها للشعب الفلسطيني وقيادته، وبعقدها صفقاتٍ واتفاقاتٍ تُسمى زورا (اتفاقيات سلام) مع دول خليجية هامشية، وعقدها التحالفات مع أنظمة افتراضية قامت على الاستبداد والدكتاتورية والبطش والإرهاب، تحت شعار (السلام مقابل السلام)، سيقضون بهذا على جذوة الإرادة الفلسطينية، والتزام شعوب الامة من المحيط الى المحيط بقضية القدس وفلسطين.. هذه القيادة المهووسة بلا شك واهمة وغبية، فمؤشر التاريخ والعدالة يشير الى اتجاه آخر تماما: 1. ما من أمَّةٍ عاشت تحت الاحتلال الا وقامت بكل عناد تدحر مغتصبها وتدفعه بعيدا عنها بكل ما اوتيت من قوة، حتى تُلْقِيَهُ بعيدا عنها غير مأسوف عليه، ولتَخْرُجَ هي ويدها العليا، ويد عدوها المعتدي السفلى..2. ان القوي الظالم لا يمكن ان يعيش قويا الى الأبد، وان الضعيف المظلوم لن يعيش الى الأبد ضعيفا.. الأيام دول، فمن كان عند أسفل منحنىً على عجلة الزمن، سيصبح يوما في أعلى قمة فيه..

(3)

“خذوني على قد عقلي” (كما نقول في العامية الفلسطينية)، واعتبروا ما سأطرحه جنوحا في التفكير وشططا في التنظير، ولكن تظل الفكرة أقرب الى الواقع من حبل الوريد، خصوصا في ظل اوضاع تتدهور يوما بعد يوم، لن تنتهي – في رأيي – الا الى كارثة بالرغم من التطبيع الذي سيزيد من الضغط على الشعوب التي لن تجد الا الثورة الكاسحة لهزيمة الهزيمة.. بعد عشرين عاما من وَهْمِ السلام، وسراب المفاوضات، وفي الذكرى ال -20 لانتفاضة القدس والاقصى، لأطرح الآن السؤال: في رأيكم أي الاحتمالات التالية يمكن ان تكون الحل المناسب للصراع المزمن في الشرق الاوسط، وأقرب الى الواقع والمنطق؟ أرى ان الإجابة عن هذا السؤال لا تعدو ان تكون واحدة من الآتي: اولا – حل الدولتين: فلسطين واسرائيل.. ثانيا – حل الدولة الواحدة.. ثالثا – زوال إسرائيل وإقامة فلسطين الكبرى لتكون الدولة ال – 23 في الشرق الاوسط.. رابعا – زوال فلسطين وإقامة اسرائيل الكبرى..

أما خامسا – فزوال صفة الدولة القطرية عن كل الدول في الشرق الاوسط بلا استثناء، وإقامة (الولايات العربية المتحدة) وعاصمتها القدس بدلا عنها، تعيش فيها شعوب المنطقة في دولة واحدة فدرالية تكون السلطات فيها مقسمة دستوريا بين حكومة مركزية (أو حكومة فيدرالية او اتحادية)، ووحدات حكومية أصغر (الأقاليم، الولايات).. هذه الدولة تشكل اتحادا بين ولايات تشكل معا شخصية قانونية واحدة أو نظام سياسي واحد. يكون لهذه الدولة الاتحادية دستور وقانون أساسي يسمى بالدستور الاتحادي، يحدد الأسس والركائز التي تقوم عليها الأقاليم والولايات داخل الاتحاد، كما يحدد الاختصاصات والسلطات الاتحادية أو المركزية، علاوة على بيان سلطات الولايات والأقاليم والمحافظات واختصاصاتها. يكون من أبرز خصائص هذه الدولة الاتحادية (الولايات العربية المتحدة): 1. رئيس واحد للدولة الاتحادية، وحكام ولايات وأقاليم.. 2 ــ حكومة مركزية اتحادية وحكومات محلية.. 3 ــ سياسة خارجية موحدة.. 4 ــ جيش وطني واحد.. 5 ــ دستور واحد ودساتير أو قوانين محلية لا تتضارب مع الدستور الاتحادي الفدرالي 6 ــ رمز وطني واحد، وجنسية واحدة ونشيد وطني واحد. هل انا احلم؟ الله اعلى واعلم!!!………………..

(4)

ما زال الشعب الفلسطيني منذ انفجار الصراع مع الصهيونية بداية القرن العشرين المنصرم وحتى اليوم، وهو يتعرض لضغوط لا تنتهي ولا تتوقف من طرفين لم يتغيرا ابدا. الأول، المجتمع الدولي وعلى رأسه دول الاستكبار العالمي: بريطانيا وفرنسا قديما، ودولة الاستكبار الحديث الولايات المتحدة الامريكية.. أما الطرف الثاني، فالأنظمة العربية التي تدور في فلك دول الاستكبار القديمة والحديثة، وتسعى لخدمتها بكل قوة حتى لو جاء ذلك على حساب المصالح العربية والفلسطينية الكبرى… هدف هذه الضغوطات لم يتغير أيضا، وظل هدفه المزيد من التنازلات عن حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة في الوطن فلسطين، وفي القدس الشريف درة التاج فيها وعاصمتها الابدية، وذلك لمصلحة الصهيونية ودولة إسرائيل..

في الذكرى ال – 20 لانتفاضة القدس والأقصى، حصل تراجع وانحدار جديدان في مواقف بعض الدولة العربية من حيث انحيازاتها للغرب وفي القلب منه الولايات المتحدة الامريكية، وتحالفها مع إسرائيل بدون أي مبرر او مسوغ مهما كان نوعه، وعدائها للشعب الفلسطيني وقضيته بشكل غير مسبوق.. إن أدت الضغوطات السابقة الى انتفاضات عارمة انتهت بمبادرات سياسية ثبت انها خالية من أي مضمون، فإن الضغوطات الحالية تحت سقف (صفقة القرن) هي اشد خطرا من الأولى، وعليه فلا بد ان تُواجه بما هو أعظم من الانتفاضات، وأنجع من المفاوضات التي تبيع السراب والوهم… يظل السؤال: ما هو هذا الذي هو أعظم من الانتفاضات، وأنجع من المفاوضات؟ الوحدة الوطنية الفلسطينية الكاملة، العودة بالقضية الفلسطينية الى المربع الأول، وفتح ملفاتها جميعا بلا استثناء، والتمسك بالثوابت الدينية والوطنية ذات العلاقة وعدم المساومة عليها باي صورة من الصور، والاستعداد للتضحية في سبيل القضية بلا حدود ميدانيا، والعمل على حشد الموقف العربي الرسمي والشعبي من وراء برنامج تحرير كامل حسب الشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة، والبحث عن السند الغربي حيثما كان ذلك ممكنا، وعدم الاستعجال بقطف الثمار قبل نضوجها، والصبر والتحمل والرباط، كلها كفيلة بعون الله تعالى بتقريب ما نراه بعيدا، وتحقيق ما نراه اليوم مستحيلا..

(5)

اما اغلب حكام العرب اليوم، فليس عندي ما انصحهم به الا ما قال الشاعر الفلسطيني المقاوم إبراهيم طوقان – رحمه الله:

أنتمُ “المخلصون” للوطنيّهْ أنتمُ الحاملون عبءَ القضيّهْ

أنتم العاملون من غير قول! بارك الله في الزنود القويّه

و”بيانٌ” منكمْ يعادل جيشا بمعدّات زحفه الحربيّه

واجتماعٌ منكمْ يردّ علينا غابر المجد من فتوح أميّه

وخلاصُ البلاد صار على الباب وجاءتْ أعيادهُ الورديّه

ما جحدنا “أفضالَكمْ” غير أنّا لم تزلْ في نفوسنا أمنيّه

في يدينا بقيّةٌ من بلادٍ فاستريحوا كيلا تطيرَ البقيّه

* الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *