منتدى العمق

التماسيح في عصر ما بعد الحداثة

قصة قصيرة بعنوان :

التماسيح في عصر ما بعد الحداثة

في عز فصل الشتاء القارص، تحت الأمطار وفي قعر الليل يسير هذا الغريب على جنبات الشارع الرئيس للمدينة هائما على وجهه، لا أحد يعلم ولا أحد يسأل عن حاله، هكذا هي وحشية المدنية في زمن ما بعد الحداثة، حيث لا وجود للإنسانية أو القيم الجميلة إلا في الوثائق الداعية إليها والحالمة بها، تماما مثل حلم آدم بالجنة بعد خروجه منها، والحنين وحده لن يعيد آدم إلى جنته، ولن يعيد الإنسانية إلى عالمها.

تتثاقل خطوات ذلك الغريب إلى الأمام ببطيء، ولعل السبب في ذلك هو ماء المطر الذي بلّل كل قطعة ثوب على جسده النحيل، وفجأة تجتاحه رعشة وحشية يستعرض معها شريط أحزانه وبؤسه والهوان الذي صار فيه، فتتساقط من عينيه عبرتان ويتبعهما وارف من الدمع لانقطاع له كان ينتظر فقط الإذن من الذاكرة العاطفية أو إشارة من المخ حتى ينطلق حرا خارج هاتين المقلتين. ويمتزج مع ماء المطر على الأرض ويمضي في مياه المجاري حيث لا فرق بين ماء المطر وماء المقل.

يستمر المسكين في استراض شريط أيامه الخوالي تحت ماء المطر، ويتذكر يوم حصوله على شهادة البكالوريا فرحا بها متفائلا بغدٍ جميل ينعم به وأهله بمستقبل أفضل. تذكر يوم نال شهادة الإجازة في القانون بميزة حسنة، ثم قبوله بعدها مباشرة في مباراة المحررين القضائيين، وهو لا يكاد يصدق نفسه مما وصل إليه، فقد بلغ جزءً من حلمه الذي كان يحلمه، وهو لا يدري أبدا ما تخفيه له الأيام في مستقبلها، فلا يأمن الدنيا على نفسه وغده سوى مأفون أو ساذج مسكين، فمن يأمن الدنيا على مستقبله كأنما وضع سره عند عدو غدار ينتظر منه لحظة هفوته لينقض عليه. استمرت الحياة في ورديتها إلى أن أصيبت أم هذا الغريب بمرض “التهاب المرارة”، وهو ليس بمرض خطير مادامت عمليته من أبرز العمليات التي تكلل بالنجاح.

حجز لأمه مكانا في مصحة خاصة حتى تجري العملية فيها، على الرغم من تشبعه بمبادئه المحاربة لخوصصة قطاع الصحة، وعلى الرغم من مرجعيته القاضية بأحقية تداوي وعلاج كل مواطن حامل لجنسية هذا الوطن بالمجان، إلا أنه قصد مصحة خاصة، لأن الواقع يقول عكس ذلك للأسف، ولأن القطاع العمومي صار مخصصا فقط للأشخاص الذين رخصت عليهم صحتهم وأعمارهم، أما هو فإنه أمه هي أغلى ما يملك ولا يمكن له أن يجعل صحتها بيد القدر والجزارين، لذلك احتجز لها سريرا في مصحة برقم خيالي للعملية وعن كل ليلة يقضيها المريض في ذلك المكان، لم يكن يمتلك ثمن هذه العملية فاضطر إلى أخذ قرض من عند أحد البنوك الربوية بعدما طرق كل أبواب الأهل والاصحاب فلم يجد منهم أحدا بجنبه يمد له يد العون، وكل ذلك كان ليهون لو أنه لم يتعرض لما يجعله يغوص في قوقعة أحزان أعمق، لقد أصيب المسكين بصدمة قاسية جدا إثر وفاة والدته داخل المصحة إثر خطأ طبي في العملية التي لم تتكلل بالنجاح، ولم يستوعب المسكين الأمر، فجعل فبدأ يسب ويشتم داخل أركان المصحة إلى أن أخرجه رجال الأمن من المصحة بالقوة.

لم يتنازل الغريب فرفع دعوة قضائية على المصحة أملا في أخذ حقه منها بقوة القانون الذي من المفرض أنه فوق الجميع، واتهم المصحة بمسؤولية موت والدته وكل الوثائق لديه تؤكد ذلك، إلا أنه صدِم أخرى بخسارته القضية رغم امتلاكه لكل الحجج والدلائل التي تدين الطاقم الطبي الذي أجرى العملية، لم يفهم الأامر فنقب فيه من خلال موقعه كمحرر قضائي وبحث في سجل هؤلاء القضاء الذين حكموا بذلك الحكم، فوجد المسكين نفسه أمام فساد من نوع آخر هذه المرة؛ إنه الفساد القضائي، تتبع المسكين خلفيات القضية باعتباره محررا قضائيا، حتى وصلته أسرار جد مؤكدة عن تقاضي رئيس الجلسة والقضاة رشوة جد مهمة من عند صاحب المصحة التي رفع ضدها دعوى، فلم يتمالك نفسه مرة أخرى واستنجد المسكين بالسلطة الأخيرة المتبقية لديه وهي سلطة القلم والصحافة، وفجرها مدوية بمقال حارق على صحيفة حرة القلم بعنوان ضخم “الرشوة داخل القضاء، إلى متى هذا الظلم؟” وكتب هناك عن قصته الكاملة مع المصحة وكذلك قضية الرشوة التي تقاضاها هؤلاء التماسيح القضاة، وذكرهم بأسمائهم لأنه عرفها أثناء بحثه في القضية.

هكذا دخل هذا المسكين في صراع مع تماسيح أكبر منه سلطة ومقاما، وليس لديه من يحميه منهم سوى هذا القلم الذي يكتب به كل مرة عن تفاصيل جديدة بلغها في سجل فسادهم. ظل كذلك آملا في تحقيق عدالة قضائية إلى أن بلغ صبر التماسيح حده، قرروا بعدما اتفقوا على هذا المسكين بأن يوقفوه عند حده حتى لا يصبح صوته مسموعا أكثر، فدبروا له مكيدة تم عزله من خلالها من مهنته بتهمة خيانة الأمانة، وتلفيق اتهامات لزملاء المهنة لا أساس لها وبلا حجج تؤيدها، قد بذلك كل شيء … وخسر حربه ضد تماسيح ما بعد الحداثة.

لم يستطع إكمال شريط استرجاع ذكرياته كاملة فسقط على الأرض مغمى عليه والمطر من فوقه يربت على كتفه ويغسل قلبه من الأحزان التي حلت به من كل جانب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *