وجهة نظر

كل الخير يأتي من الصحراء وكل الشر يأتي منها.. نحو إنهاء النزاع

ليس ثَمّةَ حاجة اليوم إلى تلقين المواطن المغربي _ ما خلا الناشئة _ فَهْمًا ومعطياتٍ وأحداثٍ مفصلية من تاريخ الصحراء المغربية، هته الـمسّماة في أعراف النزاع وفي أوساط الساسة الكبار بــ”قضية الصحراء الغربية”..، ولا إلى إعادة تكرار مَشَاهِد الاحتفاء والاحتفال التقليدية بمحطات وطنية خالدة ارتبطت بمسار هته القضية؛ وإنّما المطلوب العمل على تفهيم الــمُوَاطِن والأجيال الصاعدة الأهمية الحيوية للوعي الفَردي بخطورة نزاع الصحراء، ورَذَاذ تأثيراته الرهيبة على المنطقة، وتفهيمه كذلك القيمة المضافة للدفاع والترافع المدني والمجتمعي عن مغربية الصحراء والنهوض بها، فِعلا، واستِدامةً.

من هنا؛ فَلَيْسَت المشكلة في أنْ نلقِّن المواطِن _ مع اختلاف رؤيته وتقديره وأدْلوجته وتحيّزاته _ عقيدةَ حبّ الوطن وقطعةً إستراتيجية منه هو يملِكُ إزاءهما وطنية وحبّا خالِصيْن؛ وإنَّما الأهمّ أنْ نسعى عبر تعليمنا وجامعاتنا وإعلامنا وأُسَرِنا وحكومتنا وجمعياتنا إلى أنْ نردَّ لتلك العقيدة فعاليتها الـعملية وقوّتها الإيجابية وتأثيرها اليوم وغدا في مسار الشَّخص/المواطِن، والتاريخ، والقضية.

وإنَّ حَدث المسيرة الخضراء وهو يُطلُّ علينا في ذكراه الخامسة والأربعين؛ لَطافحٌ بالدّروس والـعِبَر الـمعينة في فَهمِ طبيعة الأدوار المنوطة بنا للدفاع العاقِل الجالِب للمصالح عن مغربية صحرائنا، نرصُد من ذلكَ دروساً ثلاثة:

الأوّل: أنَّ المسيرة الخضراء كحدث بارِز في مسيرة مغرب القرن العشرين جاءت تتويجاً لـمسارٍ طويلٍ من الحوارات والتواصل والتنسيق السياسي والنفير الـمدني والثقافي من أجلِ الصحراء، بل لم يكن للحدَث أنْ يَنْجَح في مقصده، ويُشِعَّ بثِقله في وسائل الإعلام الدولي والعربي والوطني، ويُحقّق المراد؛ لولا ما تَظافَر _ قَبْلاً _ مِن جهودِ التعبئة الوطنية وإطلاع قادة العالم على الخطوة، وبَعْث الـمثقَّفين والساسة إلى القارات الخمس لتحشيد الرأي العام المدني والسياسي قصْدَ دَعمِ المغرب في مسعاه لتحرير الأرض (علال الفاسي وامحمّد بوستة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الله العروي..) وآخرون كلَّفهم الحسن الثاني بإيصالِ مُخرَجات قرار محكمة العدل الدولية ونِية المغرب في تنظيم المسيرة الخضراء، بما يُفيدُ أنَّ الديمقراطية التشاركية واقتِسام المسؤولية إزاء قضايا بلادنا والبناء على التراكُم الـحاصِل؛ أمور بالغة الأهمية في استِكمال مِشوار الـمطالَبة العادِلة والدفاع المدني والـسَّعْي الرّسمي لاستِرجاع حقِّنا في أرضنا، إنصافاً لتاريخ المنطقة، ولحقائق الجغرافيا، وتخفُّفًا من إرْثِ ثِقْلِ ماضي الخلافات والشِّقاقات بين الجزائر والمغرب.

الثٍاني: أنَّ القصر والقوى الوطنية أَحْسَـنَا الاستِثمار في الشعور الوطني الفيّاض للدفاع عن البلاد وحَرارة النضال من أجل الوطن التي كانت لا تزال تَسْري في أوصال الشعب المغربي الذي لم تكن تفصِله عن ملحمة الاستِقلال والكفاح غير 15 سنة، وجيش تحرير الجنوب الذي كان إلى غاية 1959 ما يزال يُقاتِل القوات الإسبانية لإجلائها عن الصّحراء. كما أجادَ الـملك استِثمار ما رآه من مُبادرات الأحزاب الوطنية التي كانت إلى ذلكم التاريخ، تجْعَل من لقاءاتها ومؤتمراتها وفعّالياتها؛ مِنصّات لاحتضان النقاش عن مصير الصحراء “الغربية”. وفي هذا الصدد نُذكِّر أنَّ المثقف السياسي الراحل محمد عابد الجابِري أكّدَ في “مذكّراته السياسية والثَّقافية” أنَّ حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة الزعيم الوطني الغيّور (عبد الرّحيم بوعبيد) نظَّم وقادَ مسيرة شعبية سلمية حاشِدة في مدينة أكادير للمطالبة بجلاء الاستعمار الاسباني واستِرجاع الصحراء الغربية؛ الأمر الذي شكَّلَ فُرصة استِثنائية اسْتَثْمَرها الحسن الثاني وطوَّر الفِكرة في اتجاه تنظيم مسيرة خضراء رائدة. وفي ذات السياق؛ ذَكر الراحل (الجابري) في الفُصول (29 – 37) من الجزء الثالث من كتابه “في غمار السياسية؛ فِكراً وممارسةً”، أنَّ فِكرة عَرض قضية الصّحراء على أنظار محكمة العدل الدّولية كانت مِن بنات أفكار الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد، التي وافَقه عليها الملك الراحل، وأحال الملف على قُضاة لاهاي، واستثمَر وقْتَ التوصُّل بالجواب في التحشيد والتعبئة الداخلية والخارجية لحَدَث المسيرة الخضراء الشّعبية.

الثّالث: أنَّ وِحدة الصفّ الداخلي وتقوية المسار الديمقراطي شَرْط واقِفٌ لخوض تجربة النضال الخارِجي، ذلكَ أنَّ لقاءات الملِك الحسن الثاني المتكرِّرة مع قادة أحزاب المعارضة التاريخية وإطلاق سراح المعتقلين وبداية الإعلان عن مسار الانتقال الديمقراطي؛ سهَّلت إيجاد ما أَطْلَق عليه المؤرخ الفرنسي (بيير فيرمورين) “الـرِّباط الـمُقَدَّس”، وتخصيص سنة 1974 – 75 سَنة الصحراء بامتياز. وأنَّ مُناخ الثِّـقة المتبادَلة بين الشعب والعرش والأحزاب السياسية؛ من شأنِها أنْ تُيسِّر التِقائية الإرادات والعَزمات والمبادرات، وتَرُصّ الصفوف لمواجهة حتمية التحديات القائمة.

ولذا؛ فــإنّ الخير؛ كل الخير، للبلد وللعائلة الوطنية ولفضائنا المغاربي وللجوار الإفريقي ولتجربتنا الديمقراطية يأتي من الصَّـحراء، وكلُّ الشر _ بتعبير الحسن الثاني _ يأتي منها. فلنُواصِل المسير، حريصين على تعبئة جميع الوسائل البشرية والعسكرية والاقتصادية والفكرية والتنظيمية التي نملكُها للدفاع عن وحدة البلاد وسلامة أراضي الوطن، ومُستندين إلى خِبرتنا التاريخية في التعايش والسِّلم والحوار، وإلى وثيقتنا الدستورية وأطروحة الوحدة، داعمين لمقترح الحكم الذاتي لجهة الصحراء، ومُواصِلين لجهود إنهاء النّزاع وتحرير الصحراء المغربية التي نعتبرها قِسماً هامّاً من التراب الوطني استناداً إلى مبدأ وحدة التراب الذي تَضَمَّـنَتْهُ كلّ الأوْفاق الدولية، ومتشبِّثين بالوطنية المـتفَتِّحة، الوطنية الـمؤمِنة بوحدة المغرب الكبير كضرورة تاريخية، وعازِمين على مزيدٍ من ثقافة التـملُّك العمومي لقضية الصحراء، فهي مِلكٌ للشَّعب والأمة المغربية والنِّظام المغربي.

كما يجب أنْ تَنْصَبَّ الجهود المدنية والإعلامية والرسمية والتربوية في اتِّجاه إعادة بناء الوعي الـجماعي بالـحمولة التاريخية والسياسية والثقافية لقضيتنا الترابية، واستِلهام العِبرة مِن الـخِبرة المغربية وإخفاقاتها في إدارة النزاع، وتعبئة الـمواطنين لأداء أدوارهم الفردية والـجماعية في الدفاع عن الصحراء المغربية، والتعريف بـ”قِصَّتِها”، واستِثمار الـمُتاحات الدستورية والمـدنية لصياغة وتنفيذ خُطط دبلوماسية موازية لنصرة القضية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *