وجهة نظر

في اليوم الوطني للأرشيف (الحلقة 1): عين على أرشيف المحجوبي أحرضان

عاصر أربعة ملوك، كما عاصر عدة حكومات متعاقبة، عاش في مغرب الاحتلال وكان شاهد عصره فيما يتعلق بالحقبة الاستعمارية وما تخللها من استغلال استعماري متعدد المستويات وما واكبها من محطات نضالية مشرقة تحققت معها نعمة الحرية والاستقلال. وعاش أجواء مغرب الاستقلال وما شهده من تحولات ومتغيرات سياسية وحقوقية ومؤسساتية وقانونية واقتصادية وتنموية وأمنية وغيرها، ارتبط بالسياسة عبر بوابة حزب الحركة الشعبية الذي يعد مؤسسا له إلى جانب الراحل “عبدالكريم الخطيب”، جمـع بين السياسة ومتاعبها والكتابة بآهاتها والفن التشكيلي بملذاته وأوجاعـه، ولم يكن فقط معاصرا لأحداث عصره، بل كان مساهما ومؤثرا فيها، اعتبارا لما تقلده من مناصب وما تحمله من مسؤوليات متعددة الزوايا، خاصة في ظل حكم الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه.

إنه قيدوم السياسيين المغاربة الراحل “المحجوبي أحرضان” الذي غادرنا إلى دار البقاء قبل أيام عن عمر ناهز القرن من الزمن، لينضاف إلى قائمة رجالات الدولة ورموز السياسة البارزين الذين انطفأت شمعة حياتهم إلى الأبد ذات يوم، وكان آخرهم رجل الدولة البارز الأستاذ المجاهد “عبدالرحمان اليوسفي” رحمه الله، وتخصيص مقال متفرد للحديث عن الفقيد “المحجوبي أحرضان” ليس من باب إعادة تشكيل سيرتـه الخصبة، أو محاولة استحضار تاريخه النضالي والسياسي الذي تجاوز الثمانية عقود، فسيرة الرجل تتحدث عنه ولا تحتاج إلى من يكشف عنها الحجاب، وتاريخه الحافل، أكبر من أن يختزل في مقال كلماته معدودات أو حتى في كتاب، وبدون شك، فالمجال مفتوح أمام المؤرخين والباحثين، للنبش في حفريات رجل، الحديث عنه، لن يكون إلا حديثا عن الذاكرة النضالية والسياسية لمغرب الاحتلال ومغرب الاستقلال.

العودة إلى الراحل “المحجوبي” بعد أيام من رحيله، وطرق بوابة ذاكرته تزامنا مع “اليوم الوطني للأرشيـف” (30 نونبر) لم يكن صدفة كما قد يبدو للبعض، بل هو محاولة لتوجيه البوصلة نحو ما يكون قد تركه الرجل من “أرشيف خاص” (مذكرات، صور، رسائل، وثائق شخصية، إبداعات …) لا يمكن إلا الاتفاق حول قيمته التاريخية والعلمية والسياسية والنضالية والإبداعية، اعتبــارا لما اضطلع به الراحل من أدوار في زمن الحماية، وما تقلده في زمن الاستقلال من مناصب وما اضطلع به من مسؤوليات، ويكفي قولا أنه شغل أول منصب رسمي في مغرب ما بعد الاستقلال بصفته واليا لمدينة الرباط، وفتحت له السياسة ذراعيها، بعد تأسيسه لحزب الحركة الشعبية بمعيـة “عبدالكريم الخطيب”، مما عبـد له الطريق ليتقلد منصب الوزارة في ثمان حكومات متعاقبة لما يزيد عن العقدين من الزمن، كان أولها تعيينه وزيـرا للدفاع في أول حكومة شكلها الملك الراحل الحسن الثاني (بين 1961 و1964)، ثم وزيرا للفلاحة، ووزيرا للفلاحة والإصلاح الزراعي، ووزيرا للدولة مكلفا بالدفاع الوطني، ووزير دولة مكلفا بالبريد والمواصلات، وزير التعاون ثم وزير دولة، دون إغفال ما ميز الفقيد من حس إبداعي في مجالات الشعر والأدب والفن التشكيلي.

وعليه وتأسيسا على ما سبق، وبقدر ما نحن على وعي وإدراك في أن ما تركه “سي المحجوبي” من تركة تراثية وثائقية كانت أو عينية، هو ملك خالص لذوي الحقوق (الورثة)، بقدر ما نـرى أن ما خلفه من تراث أرشيفي بالأساس، له “نفع عام” يتجاوز بعده الخاص الضيق إلى “بعد عام” تتقــوى معه الحاجة إلى حفظه من الضياع وحسن تدبيره، تعزيزا للتراث الأرشيفي الوطني الذي يعد إرثا مشتركا لكل المغاربــة، وصيانة للذاكرة الجماعية خاصة في بعديها النضالي والسياسي، وإذا كان الموت لم يمهل الرجل للحسم في إرثه الوثائقي والعيني على غرار ما فعل الراحل “عبدالرحمان اليوسفي” الذي أوصى – قبل وفاته – بأن يأتمن ” أرشيف المغرب” على وثائقه التاريخية و”متاحف المغرب” على بعض ممتلكاته العينية، إسهاما منه رحمه الله في دعم مهام وأدوار المؤسسات الوطنية الحاضنة للتراث الوطني (أرشيف المغرب، متاحف المغرب)، فإن مسالك قانونية أخــرى (الهبة، الوديعة القابلة للاسترجاع ..) يمكن الرهان عليها، لوضع اليد على “أرشيف” الفقيد، بشكل يسمح بحفظه وتثمينه وحمايته من أن يطاله الضياع أو يمتد إليه التلاشي بالنظر إلى تأثيرات الزمن.

وفي هذا الصدد، فلا يمكن أن نجد فرصة سانحة لطرق بوابة “أرشيف أحرضان”، أكثر من مناسبة الاحتفاء باليوم الوطني للأرشيف (30 نونبر) الذي بات موعدا سنويا لاستحضار بناء الصرح القانوني والمؤسساتي للأرشيف العمومي، وتوجيه البوصلة نحو الأدوار المنوطة بمؤسسة “أرشيف المغرب” في سبيل حفظ التراث الأرشيفي الوطني وتثمينه، واعترافا منا بقيمة الرجل الذي يعد “شاهد عصر” فيما يتعلق بالذاكرة النضالية والسياسية لمغرب الاستعمار والاستقلال، وتقديرا لقيمة ما يكون قد تركه من وثائق أرشيفية راكمها طيلة مساره المهني والسياسي والشخصي، واعتبارا لما لذلك من أهمية علمية وتاريخية وسياسية وتراثية، نأمل أن يجد أرشيف “سي المحجوبي” مكانا بين أحضان “أرشيف المغرب” على غرار “أرشيف اليوسفي” وأرشيفات عدد من رموز الفكر والسياسة والفن والإبداع المغاربة والأجانب الذين ائتمنوا المؤسسة على أرشيفاتهم الخاصة، إسهاما منهم في حفظ التراث الأرشيفي الوطني وترصيع قلادة الذاكرة الجماعية وصون الهوية المشتركة من أن يطالها الإقصاء أو النسيان أو التلاشي والاندثار.

وحتى يتسنى تحقيق هذا المطلب المأمول، نوجه الدعوة إلى المؤسسة الحاضنة للأرشيف العمومي (أرشيف المغرب) من أجل توجيه البوصلة نحو “أرشيف أحرضان” بالنظر إلى قيمة الرجل ومساره النضالي والسياسي الحافل، اعتبارا لما تضطلع به من أدوار متعددة الزوايا ذات صلة بصيانة تراث الأرشيف الوطني والعمل على النهـــوض به، ومنها على الخصوص “السهر على المحافظة على الأرشيف الخاصة ذات النفع العام” و”النهوض بجمال الأرشيف عن طريق البحث العلمي والتكوين المهني والتعاون الدولي”(المادة 27 من قانون الأرشيف)، وما منحها القانون الأرشيفي من صلاحيات وآليات قانونيــة، تتيح لها الإمكانية والأهلية في “أن تتملك عن طريق الشراء وأن تتلقى على سبيل الهبة أو الوصيـة أو الوديعة القابلة للاسترجاع، أرشيفا خاصة تتولى مهمة حفظها ومعالجتها والتمكين من الاطلاع عليها” (المادة 24)، وكلها أدوار وصلاحيات قانونية، يمكن أن تشكل قوة دافعة بالنسبة للمؤسسة الأرشيفية، تتيح لها إمكانية التحـرك على أكثر من مستـوى، بشكل يسمــح باحتضان “الأرشيف الأحرضاني” حفظا ومعالجة وتثمينا.

لكن نرى أن “أرشيف المغرب” ورغم ما تستند إليه من آليات قانونية تسمح لها بتملك الأرشيف الخاصة، فأي تحرك لها في اتجاه “أرشيف أحرضان”، يبقى مرتبطا بإرادة الطرف الآخر ومدى استعداده وتعاونـه، بل ومدى تقديره وتثمينـه لما ترك الراحل، ويتعلق الأمر بذوي الحقوق، إذ لا تكفي إرادة “أرشيف المغرب” وحدها ولا مساعيها ولا طموحات وحماسة مديرها الأستاذ الجامعي والمؤرخ “جامع بيضا”، ما لم تحضر إرادة الجانب الآخر، وهنا لا مناص من دعوة ورثة الراحل “سي المحجوبي” وعلى رأسهم نجله وصديقه ورفيـق دربه في النضال السياسي “أوزيــن أحرضان” من أجل ربط جسـور تواصلية مع “أرشيف المغرب” بقصـد طلب الخبرة أو المشورة بخصوص ما تركه الراحل من وثائق أرشيفيـة، والتشــاور بخصوص السبل الممكنة التي من شأنها حفظ هذا التراث الأرشيفي ومعالجته وتثمينـه لما له من نفــع عام، ولا نرى من أحضان دافئة لأرشيف أحرضان، سـوى أحضان المؤسسة الراعية للأرشيـف العمومي.

ولا يمكن أن ندع الفرصة تمر، دون أن نرمي الكرة في مرمى حزب الحركة الشعبية الذي كان الفقيد من مؤسسيه إلى جانب الراحل “عبدالكريم مطيع”، وبدون شك، فإن أرشيفات الحزب لازالت تحتضن آثارا دالة على مرور “سي المحجوبي” الذي طبع تاريخ الحزب لما يزيد عن العقدين من الزمن، ولا يسعنا إلا أن نوجه دعــوة مماثلة لقيادة الحزب من أجل التحرك في اتجاه مراجعة الأرشيف الحركي خاصة خلال المدة التي تقلد فيها الفقيد مسؤولية الأمانة العامة للحزب وتجميع وفرز ما تركه من أرشيف، مع ضرورة التواصل في هذا الإطار مع “أرشيف المغرب” لطلب ما تقتضيه العملية من مشورة وخبــرة، بشكل يضمن حمايته وحفظه وتثمينـه، لأنه بات جزءا لا يتجـزأ من الذاكرة السياسية الوطنية في بعدها الحزبي.

إذا كان “أرشيف أحرضان” قد شكل الخيط الناظم لهذا المقال، فهو أرشيف يسائل في شموليته العديد من رجالات السياسة والفكر والثقافة والفن والإبداع، سواء الذين رحلوا عن عالمنا وتركوا وراءهم “تركات أرشيفية” ذات نفع عام، لا أحد يعلم واقع حالها ولا مآلها، أو الذين لازالوا على قيد الحياة يحتضنون أرشيفات خاصة عاكسة لمساراتهم النضالية أو السياسية أو الفكرية أو الإبداعية، دون أن يلتفتوا إلى ما يتحوزون به من أرشيف، ودون أن تتشكل لديهم الإرادة أو الاستعداد في التواصل مع “أرشيف المغرب” لائتمانها على ذلك، من باب الإسهام الفردي والجماعي في حفظ التراث الأرشيفي الوطني.

وفي هذا الصدد، إذا كانت المناسبة تقتضي التنويــه ببعض المفكرين والسياسيين والمبدعين الذي وضعوا ثقتهم في المؤسسة الأرشيفية الوطنية بائتمانها على أرشيفاتهم الخاصة من قبيل “محمد العربي المساري” و”محمد الحجوي” و”مولاي أحمد الوكيلي” و”عبدالله شقرون” و”عفيف بناني” و”حميد التريكي” و”محمد جسوس” و”شمعـون ليفي” و”عبدالله عواد” و”عبدالكريم كريم” و”عبدالصمد الكنفاوي” و”عبدالرحيم السجلماسي” وغيرهم، فإننا بالمقابل نؤاخذ على سياسيين ومفكرين ومبدعين آخريــن تقاعسهم أو ترددهم أو عدم اهتمامهم أو تجاهلهم، مما قد يصعب أو يعرقل مهمة الوصول إلى “تركاتهم الوثائقية” بعد وفاتهم.

كما أن “الأرشيف الأحرضاني” يسائل الأحزاب السياسية وطرق حفظها لأرشيفاتها ومدى الشفافية في تدبيرها وإتاحتها للجمهور في إطار الحق في المعلومة السياسية والحزبية على الخصوص، ونرى أن “أرشيف المغرب” لابد أن تكون لها “صلاحية قانونية” واضحة المعالم، تمنحها سلطة مواكبة وتتبع واقع الممارسة الأرشيفية الحزبية، لما للأرشيفات الحزبية من أهمية علمية وقيمـة سياسية توثق للذاكرة السياسية الوطنية، كما يسـائل مجتمعا مغربيا، لم يتملك بعد “ثقافة الأرشيف” ولم يصل بعد إلى الدرجة التي تجعله يدرك قيمة الوثيقة الأرشيفية في أبعادها التاريخية والعلمية والتراثية والحقوقية والحداثية والاستراتيجية، ولم يستوعـب بعد قيمـة الثقـة في المؤسسات الوطنية الراعية للتراث الوطني، وقيمة دعمها والرفـع من قدراتها، لتكــون “الحارس الأمين” لما يجمعنا كمغاربة من تاريخ وهوية وذاكرة وتراث …

نختم المقال، بالعودة الى “أرشيف أحرضان” لنشير إلى أن الفقيد قد وافته المنية بعد مسار نضالي وسياسي طويل، لكن وثائقه الأرشيفية لم تمت، ونرى أن لا تكريم لروح الفقيد ولا وفاء لذكراه، أجـود من حفظ وتثمين تراثه الأرشيفي لما له من نفع عام، ومن إسهام في صيانة التراث الأرشيفي الوطني لقيمة الرجل ولثراء وخصوبة مساراته في دروب السلطة والسياسة والإبداع، وإذا كنا على بينة واطلاع تاميـن مما تتملكه “أرشيف المغرب” ومديرها الأستاذ ”جامع بيضا” من إرادة واستعداد وطموح مشروع في احتضان “أرشيف أحرضان”، فنأمل أن تحضر نفس الإرادة ونفـس الاستعداد والطموح من جانب ذوي الحقوق وعلى رأسهم نجله “أوزين أحرضان” الذي يتحمل مسؤولية الحسم في أرشيف يتجاوز حدود الأسرة والعائلة، ليــلامس حدود الذاكرة السياسية الوطنية، وكما وجد “أرشيف اليوسفي” حضنا دافئا بين رحاب “أرشيف المغرب” بناء على “وصيـة” تركها قبل هلاكـه، نتمنى أن يصل “أرشيف أحرضان” إلى نفــس “الأم الحاضنة”، استنادا إلى “عقد هبـة” بين من ينوب عن ورثة الهالك والمؤسسة الأرشيفيـة، وإذا خصصنا مقالا لأرشيف الراحل “سي المحجوبي” أياما بعـد وفاته، فكتابتنا ما هي إلا شهـادة تكريم واعتراف وتقدير لرجل عاصر المغربين (مغرب الاحتلال ومغرب الاستقلال) جمع بين السياسة والنضال والتاريخ والسلطة والفن والإبـداع، وحفظ تراثه الأرشيفي، هو مسؤولية عائلـة ومسؤولية مجتمع ومسؤولية دولـة … وإذا كتبنا أو استنزفنا الطاقة في التحريـر، فعزاؤنا أننا نكتب من أجل التراث والهوية والذاكرة والتاريخ … ونحـرر من أجل الوطن الذي يجمعنا بكل انتماءاتنا وتناقضاتنا …

رحم الله الفقيد وأسكنـه فسيح الجنان وألهم ذويـه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعـون …

* عزيز لعويــسي – أستاذ وكاتب، باحث في قضايا الأرشيـف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *