وجهة نظر

حماس وخطأ الكيل بمكيالين

هنية و مشعل

أصدرت حركة المقاومة الإسلامية حماس بيانا صحافيا يوم الجمة 25 دجنبر 2020، هو الثاني من نوعه في أقل من أسبوعين، تعرضت فيه بالنقد والتنديد والاستنكار لقرار الدولة المغربية استئناف علاقات التطبيع مع الكيان الصهيوني. وهو أمر طبيعي على اعتبار أن الأمر يهم القضية الفلسطينية. لكن الغير طبيعي في موقف حماس، وهي تعطي الدروس للمغرب في المبدئية، منطقها المرتبك في تدبير هذا الملف، وفي كيلها بمكيالين في التعامل مع الدول وكأن المغرب “حيط قصير” يسهل القفز من فوقه.

وقبل معالجة مسألة المبدئية عند الحركة والكيل بمكيالين فيها، نسجل أن الحماسة التي كتب بها البيان الثاني للحركة بالخصوص، أوقعها في أخطاء كثيرة وكبيرة، منها حشر حزب العدالة والتنمية في قرار تطبيع الدولة المغربية وكأنه طرف فيه. ففي حديثها عن الإعلان الثلاثي بين المغرب وأمريكا والكيان الصهيوني، قالت حماس عن إخراج الاعلان إنه تم “برعاية الإدارة الأمريكية بين المملكة المغربية ممثلة برئيس الحكومة والأمين العام لحزب العدالة والتنمية وبين العدو الصهيوني … في مشهد محزن مؤلم، أن يقف زعيم حزب إسلامي إلى جانب مجرم حربٍ تلطّخت يداه بدماء الشعب الفلسطيني…”. وهنا فالبيان، الذي صور توقيع الاعلان وكأنه قرار الحكومة المغربية، أراد أن يحمل المسؤولية فقط لحزب العدالة والتنمية لذلك قصد إلى إبراز صفته الحزبية في حديثه عن رئيس الحكومة، وكأن توقيعه على الاعلان الثلاثي كان بقرار من الحزب، ومباركة منه.

وبالفعل لم يكتف بيان حماس بهذا الخلط الإنشائي، بل قصد إلى اختلاق وقائع تجعل الحزب داعما لقرار التطبيع، وجاء في البيان: “إنَّ توقيع رئيس الحكومة المغربية الإعلان المشترك لتطبيع العلاقات مع العدو، وتأييد الأمانة العامَّة لحزب العدالة والتنمية لهذه الخطوة، يعدُّ خروجًا عن مبادئ الحزب وأدبياته الدَّاعمة والمؤيّدة لفلسطين وشعبها المقاوم، وكسرًا لموقف التيار الإسلامي المجمع على رفض التطبيع مع الاحتلال”.

وهذه الزلة السياسية الكبرى تؤكد أن بيان حماس يفتقد إلى المصداقية والأمانة الموضوعية ويطرح أسئلة كبرى عن المبدئية في التعامل مع مصادرها وسعيها لفهم موقف الحزب وموقف الدولة المغربية. وبهذا البيان حشرت حماس حزب العدالة والتنمية في العالم الاسلامي في المساندين للتطبيع بل والنشيطين فيه!

وإيغالا في جلد الحزب وتلطيخ صورته بالتطبيع بناء على الأوهام، يقول البيان: “إنَّ المبادئ لا تتجزأ، وإنَّ المصالح الآنية والمكاسب السياسية لا يمكن أن تكون على حساب قضية الأمَّة الأولى، مع التأكيد أنَّ في الحزب رجالاً صادقين وأمناء مناضلين لا يرضون بهذا الموقف، وسيبقون رافضين للتطبيع مدافعين عن فلسطين، وفي القلب منها القدس والمسجد الأقصى المبارك”، فالبيان يفسر وهم مساندة الحزب لقرار التطبيع بكونه لتحقيق مكاسب سياسية على حساب “المبادئ التي لا تتجزأ”! ثم تدعو “حماس” في بيانها حزب العدالة والتنمية “إلى مراجعة موقفه من تأييد وتبرير هذا الإعلان المشؤوم لتطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، ونربأ بالحزب أن يكون عرّابًا في مسار الهرولة نحو التطبيع والعدوان على شعبنا وقضيته العادلة”! وهذه نتيجة أن تتوهم شيئا فتصدقه وتبني عليه مواقفك. فكيف ستعالج حماس خطيئتها في حق حزب المصباح؟ أم هو الآخر “حيط قصير”؟

إن ما سبق يبين أن المبدئية التي تتحدث عنها حماس يعتريها الكثير من الالتباس، ولم تمارسها حتى في أبسط الأمور والمتعلقة بالتأكد من الأخبار من مصادرها، مع العلم أن قنوات الاتصال بينها وبين الحزب لا تحتاج وسطاء ينقلون إليها فهمهم السطحي للأمور. لكن المبدئية التي استندت عليها حماس في جلدها لحزب المصباح ولدولة المغرب تطرح أكثر من سؤال حين نراجع سجل حركة حماس حول مواقفها من تدبير مختلف الدول العربية والإسلامية لملف التطبيع مع الكيان الصهيوني. لنكتشف أنه في الوقت الذي ترفع فيه شعار المبدئية الشمولية التي لا تقبل التجزيء، تمارس مبدئية براغماتية في تعاملها مع الملف التطبيع مع دول أخرى.

وفي هذا الصدد، نسأل عن موقف حماس المبدئي من التطبيع التركي مع “إسرائيل”، مع العلم أن تركيا هي أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل، فماذا قالت حوله؟ هل من بيان تنديدي بذلك التطبيع الذي بلغ أوجه في ظل حكومة حزب العدالة والتنمية التركي؟ إن التاريخ يسجل أن طيب رجب أردوغان، رئيس الحكومة والحزب، قام بزيارة إسرائيل سنة 2005 عارضا أن يكون وسيطا للسلام في الشرق الأوسط، متطلعا إلى بناء علاقات تجارية وعسكرية قوية معها، ورافقه وفد من مجموعة كبيرة من رجال الأعمال في رحلته التي استغرقت يومين، والتي تضمنت محادثات مع رئيس الوزراء “أرييل شارون”، وما أدراك ما شارون في جرائم إبادة الفلسطينيين، كما التقى الرئيس “موشيه كاتساف”.

ومن ناحية رمزية لها دلالات مبدئية حساسة وضع أردوغان إكليلاً من الزهور على النصب التذكاري للهولوكوست، “ياد فاشيم”، وصرح حينها لشارون بأن حزب العدالة والتنمية التركي يعتبر معاداة السامية “جريمة ضد الإنسانية”! وتبادل مسؤولو الدولتين الزيارات في ظل حكومات العدالة والتنمية، وحتى بعد الأزمة الأخيرة على إثر العدوان الاسرائيلي على غزة خلال 2018، فإن الدولتين استعادت علاقاتهما الدبلوماسية بشكل طبيعي وعاد كل شيء إلى ما كان عليه.

بل إنه في الوقت الذي تدبج فيه حركة حماس بيانها ضد المغرب وحزب المصباح أعلن رئيس الدولة التركي السيد أردوغان، في تصريح للصحافة بعد صلاة الجمعة، أن “بلاده ترغب في إقامة علاقات أفضل مع إسرائيل”، وليس هناك سياق لإعطاء مثل هذا التصريح إلا المستجد المتعلق بالتوقيع على الإعلان الثلاثي في المغرب! وهذا يحتاج وقفة تأمل، لكن هل نتوقع أن تلجمه حماس ببيان ناري يتهم بالسعي لتحقيق مصالح تركيا على حساب القضية الفلسطينية؟

فماذا يمثل التطبيع المغربي أمام التطبيع التركي؟ لا شيء تقريبا، ورغم ذلك لا نجد في أدبيات حركة حماس شيئا يدين التطبيع التركي، ويندد بحزب العدالة والتنمية التركي، و … فالمبدئية الشمولية التي تحاكم بها حماس دولة المغرب وتجلد ظلما حزب المصباح فيه لا نجد لها أثرا في تعاملها مع تركيا، وهي التي تقول في بيانها “لا يستقيم الادّعاء بالوقوف مع الشعب الفلسطيني مع إقامة علاقات وشراكات مع عدوّ الشعب الفلسطيني، والذي يمعن يوميًا في إجرامه وإرهابه ضد أرضه ومقدساته”، كيف يغيب هذا في التعامل مع التطبيع التركي ويحظر بقوة في التطبيع المغربي؟ أما إذا كان المبرر هو ما تستفيذه حماس والقضية الفلسطينية من دعم تركي قوي، فنحن نكون أما مبدئية براغماتية. لكن هذه البراغماتية لم تشفع للدعم المغربي للقضية الفلسطينية، والذي اتخذ أشكالا كثيرة ومتنوعة، أهمها تمويله الدائم وبنسة تفوق 80 بالمائة ميزانية وكالة بيت مال القدس التابعة للجنة القدس ، التي تعتبر أكبر فاعل في المشاريع التنموية والاجتماعية في القدس. وسنعود إلى هذه النقطة.

المثال الثاني لمبدئية حماس في ملف التطبيع نجد لها لونا آخر في مسألة التجريم الدستوري والقانوني للتطبيع في تونس، فبعد ثورة اليسامين، وصعود حزب النهضة التونسية وتشكيل المجلس التأسيسي الذي سيضع الدستور، أثير جدل سياسي كبير حول التنصيص الدستوري على تجريم التطبيع مع “إسرائيل”، وفي خضم ذلك الجدل كانت النهضة من المتحفظين الأقوياء على ذلك التنصيص والحاسم في عدم النصيص عليه، اعتمادا على ماذا؟ اعتمادا على نصيحة حركة حماس بأن لا يتم تجريم التطبيع في الدستور وأن يتم ذلك في قانون، وهذا الموقف من حماس أعلنه حينها الصحبي عتيق، الذي كان يرأس كتلة حركة النهضة في المجلس التأسيسي التونسي في تصريحات تلفزيونية، مؤكدا أن القياديين في حركة حماس الفلسطينية إسماعيل هنية وخالد مشعل، “نصحانا أثناء زيارتهما لتونس بعدم التنصيص على تجريم التطبيع مع إسرائيل في الدستور التونسي الجديد”. ومع أن تونس تتلكأ إلي اليوم في تجريم التطبيع بقانون أيضا، نسأل حماس عن المبدئية الشمولية التي لا تقبل التجزيء في النصح بعدم التنصيص الدستوري على تجريم التطبيع؟ إن نصيحة حماس منطقية، لكنها نتيجة مبدئية براغماتية تراعي موازين القوى ليس في تونس، لأنه بعد الثورة كان هناك توجه غالب يطالب بالتجريم الدستوري للتطبيع، ولكن موازين القوى الخارجية، ومستقبل تونس في ظل دستور يجرم التطبيع.

المثال الثالث في المبدئية في منطق حماس، يتعلق بالصحراء المغربية، فإذا كان من مبادئ حماس “من البحر إلى النهر” فإن من مبادئنا كمغاربة “من طنجة إلى الكويرة”، وكان على حماس من منطلق المبدئية الشمولية أن تهنئ المغرب بما حققه من مكسب يتعلق بقضيته الوطنية، وتنتقد قراره في التطبيع بحرية، فهما أمران مختلفان من الناحية المبدئية.

وتعلم حماس أن الصحراء كانت أراضي مغربية تحت الاستعمار الاسباني وحررها المغرب، واختلقت الجزائر النزاع حولها مع صنيعتها البوليزاريو، هنا حماس تصمت، ليس لمانع مبدئي يقضي بمساندة الوحدة الترابية للمغرب، بل لمانع براغماتي يراعي التعامل مع الجزائر أيضا، ويجنبها التخندق مع المغرب. وهذا متفهم، لكنه منطق براغماتي وليس مبدئيا شموليا. لكن الاسراع إلى الإساءة إلى المغرب في قضيته الوطنية، لا تحكمه حتى هذه البراغماتية، حيث رأينا كيف سارع كثير من الفلسطينيين من أطياف متعددة، ليس إلى انتقاد التطبيع المغربي فقط، بل إلى إعلان مساندة الانفصاليين ضده، واعتبار المغرب مستعمرا!

المثال الرابع في امتحان مبدئية حماس، هو تشكيكها المجاني في قدرة المغرب على الحفاظ على موقفه من القضية الفلسطينية، بل وتقديمه خادما للمشروع الصهيوني في القدس، وجاء في بيان الحركة بهذا الصدد: “إنَّنا ننظر ببالغ الخطورة لتداعيات هذا الإعلان المشؤوم لتطبيع المغرب، الذي يرأس لجنة القدس، التي من أهدافها (حماية القدس من المخططات والمؤامرات الصهيونية وخطط تهويدها)، ونؤمن أنَّ التطبيع مع هذا العدو سيفتح الباب مشرعًا نحو المزيد من تهويد القدس والمسجد الأقصى المبارك، وسيستغله الاحتلال في تكريس نهجه العدواني ضد القدس والمسجد الأقصى المبارك”، وتجاهل البيان مواقف رئيس الدولة المغربية فيما يتعلق بموقف المغرب التابث من القضية الفلسطينية، كما تجاهل المبادرة العملية التي أعلنها عنها جلالة الملك والمتعلقة بعقد لجنة القدس قريبا بالمغرب وهيكلتها لتعزيز فاعليتها الميدانية. لماذا تجاهل بيان حماس تأكيد المغرب عدم تغير موقفه من القضية الفلسطينية، هل تعتبره مجرد كلام؟

المثال الخامس حول مبدئية حماس هو في موقفها من حل الدولتين ومن حدود 67، وهو الموقف الذي يؤهلها هي نفسها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل على المدى البعيد.

طرحت حركة حماس في 1 ماي 2017 “وثيقة المبادئ والسياسات العامة” للحركة كبديل منقح لميثاقها الذي تم الاعلان عنه خلال غشت 1988. والوثيقة الجديدة ترافعت حولها قيادات الحركة باعتبار الميثاق السابق لا يخرج عن كونه خطابا دينيا دعويا، وليس ميثاقا سياسيا بالمعنى الكامل، وأنه تم اعتماده لفترة زمنية معينة من تاريخ التنظيم وأن إسرائيل تستخدمه لمحاربتها على المستوى الدولي. بمعنى أن ما اعتبر مبادئ لا تقبل التجزيء في ميثاق 1988 أصبح خاضعا للمنطق السياسي البراغماتي في سنة 2017. فبأي شيء يتعلق الأمر؟

في الوثيقة الجديدة عرفت حماس “الدولة الوطنية” وفي هذا التعريف حدث تحول واضح وكبير في رؤية الحركة للواقع ولمسألة الأرض التي تهم هذه الدولة الوطنية، فقدمتها في مستويين، مستوى يحافظ على نظرتها الأولى وتتحدث عن “أرض فلسطين التاريخية”، أي من “البحر إلى النهر”، ومستوى ثان ستقام فيه دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس وعلى حدود 1967، مع عدم التخلي عن حدود فلسطين التاريخية.

وأثار هذا التحول في موقف الحركة ورؤيتها للقضية الفلسطينية ردود فعل عنيفة ومتهمة. ذلك أن ما سبق يعني أولا القبول بحدود 67، والثاني أن الحديث عن دولة مستقلة على حدود 67 يعني الاعتراف ضمنيا بدولة إسرائيل. وإذا اكتفينا بهذه الملاحظات نسأل حماس ما هو المبدأ المتعلق بالأرض الوطنية، “من البحر إلى النهر” أم الأرض على حدود 67؟ إنه من السهل ركوب صهوة المبدئية واتهام حماس بالتفريط في أرض فلسطين، بل واستخراج كل “الأرانب الممكنة من “قبعة” ذلك الموقف الجديد، بما فيه التطبيع مع العدو.

إن الكيل بمكيالين هو نقيض المبدئية، وليس في صالح حركة حماس ولا أي طرف فلسطيني أن يستعدي المغرب، فصناعة الأعداء سهلة وبسيطة، ويكفي فيها القليل من التهور. والذي لا يفهمه الحماسيون، سواء نسبة إلى حركة حماس أو نسبة إلى الحماسية العاطفية، هو أن مثل هذه الأخطاء في محاولة مصادرة حق الدول والأحزاب في أن تكون لها رؤى سياسية تختلف عن رؤاها، تضعف حماس نفسها، بتضييق دائرة مسانديها وأصدقائها والمتعاطفين معها، وتضعف الدول والأحزاب التي تتهمها وتهاجمها أمام التطبيع بشكل لا يتصور، ويقدم بذلك خدمة للتطبيع لا تقدر بثمن.

لقد كان على حماس أن تكتفي باستنكار قرار المغرب والتحفظ عليه ودعوته للتراجع عنه، وفي المقابل دعوته لمزيد من خدمة القضية الفلسطينية، لا أن تحكم عليه بأنه يحقق مصالحه على حساب القضية الفلسطينية. لأن الحكم على أي جهة أنها “باعت” القضية الفلسطينية لا يعني إلا أنه أصبح عدوا لها. فهل تعترف حماس بخطئها وتسارع إلى إصلاحه؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *