وجهة نظر

في ذكر الغياب الفجائعي لسي امحمد الوفا

الكتابة عن سيامحمد الوفا، لا يمكن اجتزاؤها زمنيا أو نفسيا، وحتى تحت وقع صدمة الغياب المفاجئ. إن الكتابة هنا، مجرد اقتراب من مقام تتعالق فيه أكبر المشاعر وأعظم الأشعار الإنسانية، كي تصير كوة من روح تباهي أجمل الجوامع الكلامية وأرقاها نبوغا وتلقائية. يجسد هذا الاحترام والتقدير والمحبة لرجل التقيته مرات معدودات، دون أن نتفاعل، إلا ماكان في حدود التعارف.

لكنني بالمقابل، كنت متحمسا جدا لاقتناص لحظات معه، لاستخراج معدن تجربته في معارك السياسة وتدبير شؤون الدولة. ولأن التنسيق في ذلك طالت طريقه، بسبب كثرة مسؤولياته أيام الوزارة والسفارات، فقد تأجل الأمر حتى أصبح خارج طاقتي وطاقته. لكن المعرفة بالرجل، تاريخا وإنسانا ومناضلا سياسيا فذا، راكم عندي هاجس اللقيا، ولم يطل التفكير طويلا، حيث فاجأني أحد أيام صيف 2018 بمكالمة هاتفية دافئة، مليئة بالأخلاق ومعرفة الرجال.

كنت آنذاك قد نشرت مقالا في “الأسبوع الصحفي” وموقع “هيسبريس”، أزيل فيه غشاوة الظلم الذي ألبست بخاله المقاوم المرحوم مولاي أحمد بلوافي، الذي امتدت إلى تاريخه الفريد أيادي الكذب والتدليس، ومسحت من صحيفة حسناته الجمة، آيات الفداء والمجابهة، ليصنف في خانة الخيانة والجهالة. وأذكر جيدا أن فقيدنا المرحوم سي امحمد الوفا، عندما اطلع على مقالي، اتصل بي توا وشكرني وعبر عن سعادته بالانتماء معا لمدينة سبعة رجال.

هذه اللحظة، كانت شأفة امتداد لعلاقة استمرت عبر الهاتف، ولكنها أكبر من الإنصات مآلا تطويه حرارة المعرفة وذكاء الرجل وغيرته على وطنه. لا يبرح سي امحمد الوفا، وهو يتكلم دون احتواء لذات المستمع، منصتا جيدا ومبادلا تفكيريا من النوع الناذر.

إن اقتدارية سي امحمد الوفا السياسية، ليس نزعة ذاتية، ولا طوقا يقيد العلاقة البينية الشاخصة على مرمى نظر، بين الأنا والغيرية. إنها اقتدارية نابعة من علامات صميمة، تسجل تسلسلا معرفيا نابضا بدقائق الأحداث التاريخية الحديثة والمعاصرة، لمغرب عرف تحولات عميقة في الفترة الممتدة بين الملك الراحل الحسن الثاني، ووارث سره الملك محمد السادس.

يستطيع كل مراكشي، أن يحكي مواقف وأحداث بصمت المدينة الحمراء بابنها المشاكس، المعاند في الحق ، الذي يوزع ابتساماته دون اكتراث بوظيفة البروتوكول وتحفظاته الإدارية الرسمية. الديبلوماسي والوزير والمناضل السياسي والأكاديمي والمقاوم أيضا، في زمن عز النضال والمقاومة .. ولد حي القصبة بمراكش، موطن الولادة والنشاة والدراسة، حيث قاربت خطاه عالم “عرصة المعاش” البناء التاريخي الأصيل لمقر حزب الاستقلال الكبير. ومنه ارتقى قلعة الشبيبة الإستقلالية ثم الإتحاد العام لطلبة المغرب.

سنة 1970 ترأس الاتحاد العام لطلبة المغرب، مدافعا صلبا عن حقوق الإنسان وحرية التعبير في الفضاء الجامعي والانتصار للقضايا الوطنية ودعم الفكر الوطني الديمقراطي. كما لا يمكن إغفال دوره الرئيسي في بناء منظمة الشبيبة الاستقلالية التي كان كاتبا عاما لها، عرفت في عهده إشعاعا منقطع النظير. كان رحمه الله من كبار مناضلي حزب الاستقلال، على كل واجهات الحزب العتيد أيام الكبار، امحمدبوستة وأبو بكر القادري وعبد الكريم غلاب والهاشمي الفيلالي ومحمد الدويري وامحمد الخليفة والقائمة طويلة، مكافحا صنديدا في كل الهياكل التنظيمية للحزب ( من المجلس الوطني واللجنة المركزية واللجنة التنفيذية) . ظل مقاوما لكل أزمات الفساد والإفساد، مرابطا بين دروب الوزارات والسفارات، حتى وافاه الأجل المحتوم.

لم أصدق في البداية، أن فيروسا لامرئيا يمكن أن يهزم سي امحمد الوفا، وأن يغيبه عن الوجود وهو تحت رحمة آلات التنفس الاصطناعي الاختراقي أسبوعين متلازمين.
ما أقسى الموت .. وما أقسى الغياب يا سي امحمد الوفا ..
عليك الرحمات وسلام عليك أنى كنت ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *