منتدى العمق

المسار التنموي بالمغرب والنموذج التنموي الجديد

ما من شك أن التقرير الأممي حول التنمية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 1990 حقق نقلة نوعية للمشاريع التنموية و أهدافها الاستراتيجية، حينما أعطى الأولوية لانتظارات و حاجيات الأفراد و الجماعات الانسانية بدل المشاريع ذات النزعة الاقتصادية لفائدة فئة قليلة من ذوي المصالح المادية النفعية، حيث أصبح موضوع التنمية محور اهتمام عالمي باعتبارها حقا مكرسا لكل الشعوب و الدول النامية حتى تستطيع اللحاق بالدول المتقدمة.

مرت التنمية بأشواط طويلة من التحولات المفاهيمية، حيث حاولت مقاربات متعددة الاختصاصات أن تأخذ في الحسبان الأبعاد الثقافية و الاجتماعية و الانسانية للخروج من اختزال التنمية في نمو الثروة المادية. و تكمن ضرورة التنمية في الحياة البشرية، في تحقيق التغير الإيجابي و زيادة في الفرص و الخيارات المتاحة من أجل تحسين حياة الأفراد على كافة الأصعدة.

و على إثر هذه الضرورة التي تكتسيها التنمية، تمكن المغرب بقيادة جلالة الملك من بناء نموذجها التنموي على أسس ترسخ مبادئ الديموقراطية، و تعزز النمو الاقتصادي، والنهوض بالتنمية البشرية.

إذا ماهي أهداف التنمية؟ و كيف تطور مسارها في المغرب؟ و ماهي أهداف النموذج التنموي الجديد، ودوافعه؟
للإجابة عن هذه الأسئلة سنتطرق للمباحث التالية:

المبحث الأول: مسار التحول المفاهيمي للتنمية

1-تعريف التنمية ونشأتها
2- مفاهيم التنمية

المبحث الثاني: التجربة التنموية في المغرب
1- المسار التنموي في المغرب
2- حصيلة التنمية في المغرب
المبحث الثالث: النموذج التنموي الجديد
1-إرهاصات النموذج التنموي الجديد
2-المرتكزات و الخيارات الكبرى

المبحث الأول : مسار التحول المفاهيمي للتنمية
1- تعريف التنمية و نشأتها

تشير المعاجم العربية إلى أن التنمية في اللغة تعني الزيادة في كم الأشياء أو نوعيتها، أما من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية فهناك عدد كبير من التعاريف المختلفة، ومنه يصبح مصطلح التنمية لا يؤدي نفس المعنى عند استخدامه في مختلف الدراسات، ولعل أول من استعمل هذا المصطلح هو بوجين ستيلي Boujin Stelli عندما اقترح خطة تنمية العالم سنة 1889، حيث اقترن مفهوم التنمية بالمجال الاقتصادي بدايةً وكان أبرز دعاة التنمية الاقتصادية أدام سميث Adam Smith، الذي أطلق على هذا المفهوم أنه عملية تأسيس نظم اقتصادية و سياسية تسمى في مجملها عملية التنمية. فمنذ الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي استمرت مقاربة التنمية في منحاها الاقتصادي، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية اتضحت ضرورة تبني استراتيجية التنمية الاقتصادية من طرف البلدان المستقلة و هي الخطة التي حث عليها رئيس الولايات المتحدة هاري ترومانHarry Thrauman في 20 يناير 1949 و هو أول ظهور رسمي للتنمية الاقتصادية على الصعيد العالمي. تعبر هذه الاستراتيجية عن عملية زيادة الدخل القومي الحقيقي أكثر من عدد السكان، إذ تهدف إلى استخدام الموارد الطبيعية لتحقيق الرفاه الاقتصادي لأفراد المجتمع، مركزة على الجانب المادي فقط، إلا أن هذا المفهوم انصهر فيما بعد مع تطور الحياة البشرية و توسع نطاق حاجيات الأفراد ليشمل الجانب الاجتماعي و الثقافي و البيئي.

على هذا الأساس جاء تعريف منظمة الأمم المتحدة للتنمية على أنها تلك <<العمليات التي يمكن بها توحيد جهود المواطنين و الحكومة لتحسين الأحوال الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية في المجتمعات المحلية و مساعدتها على الاندماج في حياة الأمة و المساهمة في تقدمها بأقصى قدر مستطاع>>. من هذا المنطلق يمكننا تعريف التنمية بوجه عام على أنها عملية ديناميكية تشمل التغيرات الهيكلية و الوظيفية في المجتمع و تحدث نتيجة التدخل في توجيه حجم و نوعية الموارد المتاحة للمجتمع، و ذلك لرفع مستوى رفاه الغالبية من أفراد المجتمع، وكذا التخلص من الفقر و الهشاشة قدر الإمكان، عن طريق زيادة فاعلية أفراده وإشراكهم في تحديد مصيرهم التنموي .

2-مفاهيم التنمية:
عقب الحرب العالمية الثانية احتكر التفكير في قضية التنمية و التخلف تلك التيارات المستمدة من علم الاقتصاد السياسي بفرعيه الرأسمالي و الاشتراكي، و ظهرت في هذا المجال عدة اتجاهات نظرية. لكن هناك بعض الاجتهادات العلمية التي اهتمت بقضايا التنمية و الديموقراطية و حقوق الانسان، التي هدفت إلى لفت الأنظار تجاه بعض القضايا للتغلب على الظواهر الاجتماعية، حيث ساهمت في نهاية المطاف إلى بلورة مفهوم التنمية الانسانية الشاملة و المتكاملة والمستدامة .

●التنمية الاقتصادية: وتعني الزيادة الكمية لكل من الدخل القومي و الناتج القومي و حسب جوزيف شومبتر تعني تحقيق تغيرات جوهرية وتكنولوجية و اجتماعية و سياسية بالاضافة إلى النمو الاقتصادي المتمثل في زيادة الإنتاج الكلي الخام.

●التنمية البشرية: أول ظهور للمفهوم كان من قبل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 1990، و هي عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية و اجتماعية و ثقافية و سياسية و بيئية، تعمل على توسيع الخيارات المتاحة أمام الناس، حيث يكون الانسان هو محور تركيز الأنشطة المنجزة.
●التنمية البشرية المستدامة: صدر أول مرة المفهوم المركب في ملتقى الأرض بريو دي جانيرو من طرف جيمس غوستافو سبيث سنة 1996، يتمثل المفهوم في

كون أن التنمية المستدامة لا تكتفي بتوليد النمو وحسب بل تسعى إلى توزيع عائداته بشكل عادل، وتحاول تجديد البيئة بدل تدميرها …حيث تعمل لصالح البشر و الطبيعة. و عناصرها الأساسية: الانصاف، الانتاجية، الاستدامة و التمكين.

● التنمية الانسانية الشاملة و المتكاملة و المستدامة: مع حلول سنة 2006 استعاض صانعو التقارير المهتمين بمجال التنمية بمفهوم أوسع، و هو التنمية الانسانية، هذا يعني الانتقال بالأفراد إلى حالة راقية من الوجود البشري و من ثم صارت التنمية توجها إنسانيا في إطار الشمولية لكل مناحي الحياة، و التكامل بالاهتمام بجميع الأفراد و مؤسساتهم، ثم الاستدامة البيئية والاجتماعية.

لقد باتت التنمية خيارا لا رجعة فيه لإنقاذ الأوضاع المتردية للبلدان بعدما أفسدته الحرب العالمية الثانية و الحركات الاستعمارية ، وكان المغرب من بين البلدان التي بدأت مشوار التنمية خلال السنوات الأولى بعد الاستقلال حيث نهج الملك محمد الخامس المغفور له استراتيجية للاستقلال الاقتصادي، و ذلك عبر مجموعة من البرامج و الاصلاحات الهيكلية، إلا أنها لم تكلل بالنتائج المطلوبة نظرا للصعوبات و الظروف التي مرت بها البلاد قبل الاستقلال، لكن ومع ذلك ظلت مستمرة محاولات الاصلاح و التنمية في عهد الحسن الثاني رحمه الله، إلى وقتنا الحالي مع جلالة الملك محمد السادس، حيث تحققت نتائج جد مهمة سنتطرق لها في المبحث الموالي.

المبحث الثاني : التجربة التنموية في المغرب

1-المسار التنموي بالمغرب.
مع وصول الحسن الثاني رحمه الله إلى الحكم خلفا لوالده عام 1961، و الذي يعد مؤسس المغرب الحديث و موحد البلاد و محرر الصحراء المغربية من قبضة الاستعمار الاسباني عام 1975، و قيادته مجموعة من الاصلاحات التي عملت على تعافي المغرب و نهوضه من عثرته، حيث اعتمد المغرب سنة 1993 برنامج الأولويات الاجتماعية الذي استهدف تطبيق استراتيجية للتنمية الاجتماعية تشمل العديد من الأقاليم الأكثر تهميشا في المملكة. هذه الاستراتيجية تألفت من ثلاث مشاريع أساسية : التعليم الأساسي، الصحة الأساسية ، الانعاش الوطني و التنسيق و متابعة البرامج الاجتماعية.
سنة 1999، مع تولي جلالة الملك محمد السادس الحكم، انخرطت المملكة المغربية في استكمال عملية التنمية، من خلال اعتماد التنمية البشرية المستدامة كمشروع مجتمعي، وكنموذج تنموي جديد افتتحه الملك ، كما تكرس هذا الالتزام كخيار استراتيجي من خلال سلسلة من الإصلاحات المتتالية بهدف بناء التنمية الاقتصادية على أسس صلبة، من أجل تحسين الظروف الاجتماعية، و اعتماد الاجراءات الوقائية في المجال البيئي، و ذلك في إطار خطط عمل تتضمن أهداف محددة و قابلة للتحقيق في جميع القطاعات.
في نفس السياق، أقر المغرب مشروع مخطط التنمية (2000-2004) الذي هدف إلى تعديل مسار التطور و أليات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية، حينها وضع المغرب على السكة الصحيحة للتنمية، التي يستطيع من خلالها استغلال كل مكوناته و طاقته المادية والبشرية استغلالا عقلانيا. وقد توج هذا التوجه الاجتماعي بإعلان المغرب في 18 ماي 2005 المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بالموازاة مع الجانب الاقتصادي بصيغته المستدامة، فقد دعا صاحب الجلالة إلى وضع ميثاق وطني للبيئة و التنمية المستدامة، حيث تم تفعيل الميثاق منذ سنة 2014 بعد إعداده سنة 2011، في إطار مقاربة تشاركية شملت جميع مكونات المجتمع المغربي على الصعيدين الوطني و المحلي.
• المبادرة الوطنية للتنمية البشرية: هو مشروع تنموي انطلق رسميا بعد الخطاب الملكي في 18ماي 2005، يهدف إلى محاربة الفقر و الهشاشة و الاقصاء الاجتماعي بجعل المواطن أساس الرهان التنموي، عن طريق مساهمته في تشخيص الحاجيات و المطالب و تحقيقها، مع اعتماد مقاربة تشاركية يتدخل فيها جميع الفاعلين. وقد مر بثلاث مراحل أولها كانت ما بين 2005-2010 و آخر مرحلة من 2019 إلى 2023.
• الميثاق الوطني للبيئة و التنمية المستدامة: تمخضت هذا الميثاق عن الخطاب الملكي السامي سنة 2009 و 2010، نتج عنها تأسيس هيئة استشارية لتفعيل المشاورات حول الميثاق الذي تم تفعيله2014. تم اعتماد قانون إطار رقم 12-99 يحدد أهدافه الأساسية، من بينها: حماية الجودة و المكونات المختلفة للتراث الطبيعي والثقافي؛ تحقيق تنمية اقتصادية و اجتماعية و ثقافية قادرة على إحداث تحسن كبير في جودة الحياة و الظروف الصحية للمواطن؛ الحد من النفايات و الزيادة في عملية إعادة تدوير النفايات.
2-حصيلة التنمية بالمغرب :
شهدت السياسة التنموية في المغرب ديناميكية كبيرة خلال العقدين الأخيرين و حققت عدة مكاسب في مختلف القطاعات و التي سنستعرض أبرزها على النحو التالي:
• مجال النقل و المواصلات: بات المغرب يتوفر على بنية نقل مهمة ومتنوعة شهدت خلال السنوات الأخيرة تطورا كبيرا، تمثل في توسيع و تمديد الطرق السيارة والسكك الحديدية و النقل البحري التي تعتبر إحدى أكثر البنى تقدما في إفريقيا. حيث امتلك المغرب إلى حدود سنة 2016، 977كلم من الطرق السريعة و تم إطلاق أشغال 360كلم سنة 2017، أما الطرق السيارة فتشكل 1800 كلم إلى غاية 2016 من ضمنها بناء جسر محمد السادس و الذي يعتبر أكبر جسر معلق بإفريقيا.
أما فيما يخص السكك الحديدية و النقل السككي فيحتل المغرب الصدارة في إفريقيا من حيث جودة و فعالية الشبكة السككية، من خلال بلورة و تنزيل استراتيجية ناجعة لتنمية هذا القطاع و الذي يتضمن مجموعة من المشاريع كالخط فائق السرعة، و تجديد محطات القطار، و رفع قدرة الخطوط، و تعزيز حضيرة العربات و تقوية عمليات التسويق.
أما في مجال النقل البحري، فتموقع المغرب في المرتبة الأولى إفريقيا و الثانية عربيا في مؤشر الربط البحري سنة 2018، كما عرف النقل الجوي بالمغرب في السنوات الأخيرة تحولات كبرى، عبر سياسة تعزيز النقل الجوي التي تبناها منذ 2004 و التي توجت بالتوقيع على اتفاقية الاجواء المفتوحة مع الاتحاد الأوروبي نهاية 2006، إضافة إلى نمو حجم الاستثمارات للمكتب الوطني للمطارات ما بين 2012 و2016 حيث شملت توسعة وتشييد مطارات و تطويرها بمجموعة من المدن المغربية.
• المناخ: في سنة 2001 استضاف المغرب الدورة السابعة لمؤتمر الأطراف للتغيرات المناخية، و في نفس السنة تم إنشاء لجنة وطنية برئاسة و زارة البيئة سنة 2004. وتم إنشاء مركز للمراقبة و التنسيق بشمال المغرب من طرف وزارة الداخلية بهدف تحسين نظام الاستجابة لحالات الطوارئ للكوارث الطبيعية.
-المصادقة على اتفاقية باريس حول الاحتباس الحراري سنة 2015 .
-تنظيم المؤتمر العالمي حول المناخ كوب22 بمراكش سنة 2016. كما تم اتخاذ إجراءات ملموسة لمحاربة إتلاف الغابات من خلال وضع إحصائيات علمية و تقنية. و نتيجة لمشروع التكيف مع تغير المناخ الهادف إلى إدارة و تقليل مخاطر تغير المناخ و تقييم مدى التعرض للمخاطر المحتملة، إضافة إلى إنشاء محطات مناخية أوتوماتيكية.
كما اعتمد المغرب استراتيجية النجاعة الطاقية و هو مخطط وطني متعدد السنوات لتقوية النجاعة الطاقية في قطاع البنيات و الصناعة و النقل.
• الاقتصاد: استطاع المغرب تحت قيادة الملك محمد السادس تعزيز الاستقرار المالي والتنمية الاقتصادية بفضل سياسة مالية تهدف إلى استعادت التوازنات الماكرو اقتصادية عبر إنجاز عدد من الإصلاحات الجوهرية، إضافة إلى المجهودات المبذولة في تحسين مناخ الأعمال و دعم المقاولة المغربية.
فعلى مستوى استعادت التوازنات الماكرو اقتصادية، تراجع عجز ميزانية الدولة ب3.5% من الناتج الداخلي الخام سنة 2018. وضبط مستوى المديونية في حدود 65% من الناتج الداخلي الخام، و رفع احتياطات العملة الصعبة. كذلك، مضاعفة المبالغ المخصصة للاستثمار العمومي وصل إلى 195 مليار سنة 2018 حيث ساهمت هذه الاستثمارات في تحفيز التشغيل و المقاولات و الشركات الوطنية بشكل كبير.
• المجال الاجتماعي: تجدر الاشارة إلى أن الجهود التي قامت بها السلطات المحلية للتنمية الاجتماعية عرفت تقدما ملحوظا في السنوات الأخيرة و تتضح في تطور عدة مؤشرات منها:
• ارتفاع العمر المتوقع عند الميلاد من 47 سنة عام 1968 إلى 75.5 سنة 2014، كما بلغ معدل الولوج إلى مياه الشرب 95% سنة 2014، ودعم الولوج للخدمات الصحية بتأهيل دور الأمومة حوالي 240 سنة 2019، كما تم إحداث القوافل الطبية، و إرساء منظومة الصحة الجماعاتية بعقد اتفاقية ثلاثية سنة 2019 بين المبادرة الوطنية و وزارة الصحة و منظمة اليونيسيف.
• تعميم التعليم الأولي، ودعم الأشخاص في وضعية هشاشة عبر مراكز للنساء1.134 و ذوي الاحتياجات الخاصة630.
• بناء و تأهيل دور الطالبة و الطالب حوالي 1.400 لتشجيع التفوق المدرسي ومحاربة الهدر.
• إحداث فضاءات رياضية 2.200، و دور للشباب 512 و مراكز ثقافية350 .
• حققت المرحلة الأولى و الثانية للمبادرة 9400 نشاط مدر للدخل 64% منها بالوسط القروي.
مكنت هذه المكتسبات بلادنا من امتصاص الصدمات التي واجهته سواء منها الناتجة عن عوامل داخلية أو خارجية كالأزمات الاقتصادية و ارتفاع أسعار المواد الأولية، غير أن هذا التقدم كان مصحوبا بتحديات اقتصادية و تفاوتات اجتماعية و مفارقات مجالية، و هو الأمر الذي أكده جلالة الملك في عدة خطابات، كما دعا إلى إعادة النظر في النموذج التنموي المغربي لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد، و الانخراط في دينامية تنموية جديدة، و هو ما سنتطرق إليه في المبحث الموالي.
المبحث الثالث: النموذج التنموي الجديد
1 – إرهاصات النموذج التنموي الجديد

إن الدعوة إلى النموذج التنموي كأرضية تعاقدية أضحى موضوعا ثابتا في كل الخطابات الملكية و في كل المناسبات، حيث يعتبر الخطاب السامي أمام البرلمان في 13 أكتوبر 2017 و 2018 لحظة فارقة طبعت تاريخ المغرب على غرار كل المبادرات الأخرى التي كانت بمثابة منعطفات حاسمة في المسار الوطني. ذلك أن دعوة الملك إلى إعادة النظر في في نموذجنا التنموي لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد، خلقت دينامية جديدة انخرطت فيها جميع القوى الحية ببلادنا.
حيث طالب جلالته في خطاب السنة التشريعية العاشرة بإعادة النظر في النموذج التنموي الحالي، و الحاجة إلى بلورة نموذج تنموي جديد تضطلع فيه الحكومة بمهمة هندسة جيل جديد من المخططات القطاعية لغاية اعتمادها كركائز في النموذج التنموي المرتقب، حيث جاء في الخطاب الملكي:<< ندعو الحكومة الشروع في إعداد جيل جديد من المخططات القطاعية الكبرى تقوم على التكامل و الانسجام من شأنها أن تشكل عمادا للنموذج التنموي في صغته الجديدة>>.
أما في خطاب عيد العرش 29 يوليوز 2019 أكد الملك الدعوة إلى النموذج التنموي الجديد، الذي يجب أن يتجاوز المحدودية التي أبان عنها النموذج الحالي، على إثره قام البنك الدولي بإنجاز تقريره المعنون ب “المغرب في أفق 2040” قدم فيه بعض سمات عدم نجاعة النموذج الحالي، لأن معدل النمو حسب هذا التقرير لا يتعدى 4.5% بالمغرب و هو غير كاف لتقليص معدل البطالة، و أن هذا النموذج قائم أساسا على الاستهلاك الداخلي ناهيك عن وضع اقتصادي مطبوع بالفتور و الانكماش طيلة السنوات العشر الأخيرة، مما انعكس سلبا على التشغيل و الادماج الاقتصادي للسكان في بعض المناطق.
و في نفس المنحى جاء تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي و البيئي الصادر في شتنبر 2018 و الذي نبه إلى ضعف مستوى الاستثمار، حيث جدد المجلس الدعوة إلى ضرورة النهوض بهذا المجال، إضافة إلى غياب سياسة ناجعة في مجال التصنيع الذي تعتبر مساهمته في الناتج الداخلي جد ضئيلة، كما دعا نفس المجلس إلى خلق و تعزيز الحكامة المؤسساتية و محاربة اقتصاد الريع مشيرا إلى زيادة الارتفاع في معدل البطالة من 9.9% سنة 2016 إلى 10.2% نهاية سنة 2017.
لم يوجه الملك الدعوة إلى رئيس الحكومة فحسب، بل كانت دعوته أيضا للأحزاب السياسية صريحة قصد المساهمة في اقتراح الصيغ التنموية المأمولة، ومساهمة النقابات والمجتمع المدني قصد بلورة لقاءات وطنية و دولية بغية رسم معالم النموذج التنموي الجديد.
2- أهداف النموذج التنموي الجديد و خياراته الكبرى
لقد شكل الخطاب الملكي و التقارير التنموية أرضية لانطلاق نقاش موسع بين المجال الأكاديمي و السياسي حول النموذج الحالي و مشروع النموذج القادم، وقد شكل الاعتراف بضعف المردودية مقارنة مع الظروف العالمية فرصة لمعالجة الأسباب، و بالتالي إعداد المقترحات الكفيلة للنهوض بنموذج تنموي قادر على الرفع من الاقتصاد الوطني بشكل تدريجي مرورا بباقي المجالات الاجتماعية و الاقتصادية، قائم على منظور تشاركي يهدف إلى تحقيق المساواة و الحد من الفوارق المجالية، وذلك ضمن استراتيجية وطنية تهدف إلى تحقيق تنمية شاملة على المدى القريب و المتوسط و البعيد. إلا أن هذه الاستراتيجية الجديدة نجاح مشروعها يبقى رهين بمدى تحقيق مجموعة من المرتكزات الرئيسية و الحيوية:
2-1-المرتكزات الأولية:
هناك مجموعة من المرتكزات العامة التي تختزل نسبة مهمة من التصور الذي يقوم عليه مشروع النموذج التنموي الجديد و تتمثل في:
– تعزيز الحكامة الترابية و المؤسساتية؛
– توفير خدمات اجتماعية و مرافق عمومية جهوية لتحقيق اكتفاء ذاتي للمواطنين؛
– فسح المجال أمام الطاقات الشابة نحو تحقيق مشاركة فعلية في الحياة السياسية والاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية؛
– إرساء الديموقراطية المحلية بإشراك المواطنين من خلال تنزيل آليات الديموقراطية التشاركية المنصوص عليها في دستور 2011؛
– الاستثمار في الرأسمال البشري كرافعة لتحقيق نموذج تنموي فعال؛
– التوزيع العادل للثروة من أجل التشجيع على الاستثمار و خلق مشاريع خاصة تساهم في خفض البطالة؛
– إصلاح النظام الضريبي بهدف توزيع منصف في أفق محاربة التهرب الضريبي؛
– خلق سوق شغل يدمج فئة واسعة من السكان، و تشجيع المقاولات؛
– الحفاظ على البيئة و التدبير المسؤول و العقلاني للموارد الطبيعية؛
– تعزيز تكافؤ الفرص و القضاء على الفوارق الاجتماعية.
2-2- الخيارات الكبرى:
بادرت مجموعة من المؤسسات و الهيئات المعنية و عدد من الفعاليات و الكفاءات الوطنية بإعداد بعض المساهمات و الدراسات التي تحمل في طياتها مجموعة من الخيارات التي من شأنها أن تؤسس النموذج التنموي الجديد، و من هنا سنعمل على مقاربة مجموعة من الخيارات و هي بمثابة دعامات أساسية متفق عليها من قبل عدد لا بأس به من الاسهامات المقدمة في هذا الصدد:
* تحرير الطاقات التنموية للرأسمال البشري و اللامادي: و هذا بالعمل على تعبئة الطاقات التي لها تأثير على إنتاجية المواطن و المجتمع و التي من شأنها أن تأثر إيجابيا على الأداء الاقتصادي و هذا يرتكز على مجموعة عناصر ترتبط بالمعرفة و الخبرة و الحكامة والعدالة، وهي الرأسمال الاجتماعي المتمثل في الثقة داخل المجتمع و قدرتهم على العمل سويا و التضامن فيما بينهم. إذن هذه الخطوة القائمة على تطوير و تعزيز المؤهلات والقدرات لمكونات المجتمع بدورها تقوم على مجموعة من المكتسبات:
– ضمان استفادة الجميع دون تمييز من خدمات عمومية متاحة و ذات جودة؛
– تقليص الفوارق الاجتماعية و المجالية الناشئة عن اعتبارات تاريخية و جغرافية؛
– التحسين الملموس للخدمات العمومية و مواجهة مشكل غلاء المعيشة؛
– تحرير المبادرة الاقتصادية و ريادة الأعمال بتمكين ذوي المواهب من التعبير عن انفسهم و تطوير قدراتهم الابداعية و استثمار مؤهلاتهم و إنشاء منظومة قوية لدعم ومواكبة المقاولين؛
– تحقيق المساواة في توزيع الموارد في المجال الاقتصادي بتجاوز العراقيل القانونية وغير القانونية.
* تحقيق منظومة وطنية للتربية و التكوين كلبنة اساسية هادفة إلى إعداد مواطن فاعل في دينامية التقدم الاقتصادي و الاجتماعي، تتماشى مع متطلبات العصر و تحقيق تنمية مستدامة.
* جيل جديد من الخدمات العمومية مرتكزة على تعزيز و توسيع مسؤولية الفاعلين في استثمار التحول الرقمي.
* ضمان منافسة سليمة و تقنين الامتيازات من اجل تحفيز الاستثمار المنتج و الناجع وتقليص الفوارق.
* تحول اقتصادي يهدف إلى تحقيق إقلاع صناعي وإدماج القطاع غير المهيكل في الاستثمار الاقتصادي.
* إشراك النساء في الفعل الاقتصادي و مجال التنمية، مع ضمان التمتع بحقوقهن بما يكفل لهم الاستقلالية و المشاركة الكاملة في الحياة الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية والثقافية.
* إدماج العالم القروي و تثمين موارده و جعله يتسم بالجاذبية.
* تقليص الفوارق الاجتماعية و المجالية بما يمكن من حماية اجتماعية شاملة و تعزيز التضامن المنظم.
* حماية الرأسمال الطبيعي و تثمينه على نحو مستدام.
* تحقيق دولة الحق و القانون ضامنة للصالح العام وفق مقاربة ترابية للعمل العمومي تقوم على التوازن و الشفافية و النجاعة و التقييم الممنهج.

خاتمة:
ظهر مفهوم التنمية مرتبطا بالأوضاع التي كان يواجهها العالم بعد الحرب العالمية الثانية، كان يعكس معناه آنذاك إعادة البناء الاقتصادي و تأهيله و تحسين المعيشة من الناحية المادية إلا أن استمرار تطور الحياة المجتمعية الانسانية فرضت تطور مفاهيمي على معطى التنمية الذي كان يقصد به إعادة التأهيل الاقتصادي، مرورا بالتنمية البشرية المقصود بها تحسين مستوى عيش الأفراد من أجل خلق الثروة. إلا أن المفهوم الإنساني الشامل غير ما كانت عليه التنمية من قبل بحيث أصبح الإنسان محور العملية التنموية مع أولوية الاستدامة و التكامل.
لقد اعتمد المغرب على محرك التنمية بشكل رسمي انطلاقا من المبادرة التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس سنة 2005م. ثم ميثاق التنمية المستدامة الذي ارتكز على جملة من الثوابت قصد مواكبة التحولات السياسية و الاقتصادية لبلادنا و كذا مع التطورات التي شهدها المحيط الدولي، و قد اعتمد المغرب مجموعة من الخيارات التنموية تتمحور حول أربع نقاط أساسية ألا وهي: مواصلة تعزيز الطلب الداخلي/ تنويع روافد النمو/ تفعيل الإصلاحات الهيكلية/ تعزيز التماسك الاجتماعي. إلا أنه بالرغم مما حققته المجهودات الجبارة هناك مجموعة من النواقص التي شكلت ضرورة لمراجعة جماعية تعيد النظر في المساعي الحقيقية التي ينبغي تحصيلها للتكيف مع ظروف التطور العالمية التي تطل على مشارف الثورة الصناعية الرابعة.
هذا الوضع بات يفرض بلورة رؤية تنموية بروح جديدة متعددة الأبعاد، كما تتطلب منظومة حكامة مركزية و ترابية قائمة على تنسيق و التقائية السياسات و البرامج العمومية.

المراجع:
-الخطب الملكية
– جمال حمداوي، من أجل تنمية مستديمة، 2017، الطبعة الأولى.
– النموذج التنموي الجديد للمغرب، منشورات المجلس الاقتصادي والاجتماعي و البيئي، 2019.
– موقع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
– المغرب بين أهداف الألفية من أجل التنمية و أهداف التنمية المستدامة، منشورات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، التقرير الوطني 2015.
– بوبوش محمد: الحكامة و التنمية الاشكالية و العلاقة، مقال منشور على موقع tanmia.ma
– موقع البوابة الوطنية Maroc.ma
-العمراني عمر التطور المفاهيمي للتنمية ، مجلة الحوار الالكترونية.
-2019حصيلة غنية بالانجازات و المبادرات، جريدة LaMape، 2020.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *