مجتمع

نوابغ مغربية: غانم الغماري.. قائد لواء المغاربة في جيش الأيوبي وأول إمام مغربي للحرم المقدسي

تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية.

هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة “العمق” أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان “نوابغ مغربية”، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ.

الحلقة 34: غانم بن عـلي الغُمَاري.. قائدُ لواء الـمغاربة في جيش صلاح الدين الأيوبي وأول إمام مغـربي للحرم الـمقدسي

بسم الله الرحمن الرحيم

كان للغُماريين المغاربة دورٌ بارز في الحركة العلمية والفكرية والصوفية والعسكرية في بلاد الشام وفلسطين، وكان منهم أفراد مارسُوا القضاء والإفتاء، عَـدَّ منهم الإمام الذَّهبي والعسقلاني حينَ تأريـخِـهِما لأعْلام الأمّة في القرن الثاني عشر الميلادي كلاَّ من السيد أحمد بن يعقوب الغماري، والسيد عبد الرحمن المالكي الغماري، والسيد محمد بن يوسف الغماري، كما كان لرجالاتهم أدوار بارزة في التطوّع للجهاد طيلة عهد الدولة المرابطية والموحدية والـمرينية، إنْ في اتجاه الشمال صوب الأندلس كالمتصوف الـمجاهِد علي بن ميمون الغماري، أو في اتجاه المشرق صوبَ فلسطين وبلاد الشّام. 

بَرَزت أسرة آل غانم الغمارية من بين الأسر التي ساهمت في الدّفاع عن فلسطين، واستقرَّت بها عَقِبَ الانتصار التّاريخي للمسلمين في معركة حِـطِّـين (4 يوليوز 1187)، واشتهَرَ منهم العالِم المجاهِد غانم بن علي بن إبراهيم الغماري. 

يُرجِع الإمام الذّهـبي في كتابه “تاريخ الإسلام ووفَيَات الـمشاهير والأعلام” جذورَ السيد غانم الغماري إلى قبيلة الخزرج الأنصارية في المدينة الـمنورة، والده هو السيد علي الغماري، ابن منطقة غمارة على ساحل البحر الأبيض المتوسط بين حاضِرَتَيْ شفشاون وتطوان. فيما يَرتفِعُ المؤرِّخ المغربي عبد الهادي التازي بنسَبِ غانمٍ إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، ويَصفِه بــ”شيخ الإسلام غانم الشَّريف”.

تربّى الصبي غانم على يد والده وأسرته، تربية دينية، في سياقٍ موسومٍ بتصاعد المواجهة بين المغاربة والاحتلالَين البرتغالي والإسباني في الغرب الإسلامي، والعرب والاحتلال الصليبي في المشرق الإسلامي، فَزُرِعت فيه قِيم الكفاح والوطنية والدّفاع عن الأرض، التعلُّق بمقدّسات وثوابت الأمّة. ثم كان أنْ انتَقل الوالِد علي الغماري إلى الحـجاز حاجًّا، فانتهى به الـمطاف مَعية عدد من الـمغاربة مُستقِرّاً في مدينة (نابلس) بفلسطين سنة 558 هجرية. 

آوتْـهم قَرية (بورين) التابعة لنابلس، فوَجَدت أسرة علي الغماري فيها الأجواء الـملائمة لتربية الأولاد وتعليمهم، وكان نصيبُ غانم بن علي مِن أخْذ العِلم وتلَقِّـيه على كبار المشايخ في الشام وفلسطين كبيرا، فنهَل من مَعِـينِـهِـم، وأُجيزَ في فنون المعارف على يَدِهِم. ثم لما شَبّ واستوى؛ تَزوّج، وأنجب ذرية حَملت معها روح المغرب في فلسطين، وأبانت عن إخلاصها في خدمة القدس الشريف، أوقافًا، وعلماً، وتعليمًا، ودفاعًا. 

أفادَت التربية الروحية وبَركة أكناف بيت الـمقدس في صلاح واستقامة مترجَــمِـنا غانم الغماري، فكان كما وصَفه المؤرخ الذهّبي “زاهدا، عابدا، مُـخبِتا، قانتا لله، صاحب أحوال وكرامات”، ووصفه الباحث موسى المودّن بــ”العالم الـجليل”، وأنه كان مِن “المصلِحين الزّهاد الـعُبّاد الذين ذاع صيتهم في كل الأرجاء، وأصبحوا مقصد كلّ متلهِّفٍ لتَلَـقّي العلم والنّصائح والإرشاد”، ومِن أبْرز المغاربة اشتهارا بـ”الكرامات والأحوال”، كانت له خَلوات يختلي بها في القُــبَّة السُّليمانية والمسجد الأقصى، ذاكِرا الله وشاكِرا له ومتأمِّلا في ملكوته، وكان على حدّ شهادة ابنه عبد الله الغماري ذا “أخلاق كريمة وهَـيْـبَة عظيمة”، معروفا بين الـمَقدِسِـيِّـين بـ”الشيخ غانم النابلسي”. 

إنَّ أهمّ ما ميّز حياة الشيخ غانم الغماري؛ انخراطه في حروب التحرير ضد الصليبيين، ومشاركته أميرا على سَرية أهل فلسطين مُكلَّفا بلواء المغاربة في معركة حِطِّين مع القائد الـمظفّـر صلاح الدّين الأيوبي رحمه الله (1138-1193). 

ما إنْ وَصَلَت طلائِع الـمجاهِدين لفلسطين بقيادة الأيّوبيين؛ حتّى هَبّ غانم الغماري معية كثير من المغاربة والمتطوّعين الذين أنْـفَذَهُم السلطان يعقوب بن يوسف الـموحّدي (1184 – 1199) لدعم حركة الجهاد ضد الصليبيين؛ مناصِرا لجيش الأمير الأيوبي، ومجاهِدا في سبيل استرجاع بيت الـمقدس وأحوازه. 

في أعقاب الانتصار الكبير في حطّين؛ واستتباب الوضع للمسلمين؛ كافأَ الأميرُ صلاح الدِّين الشيخَ غانم الغماري؛ بتوليته مـشيخة الحرم القدسي، وكان أوّلَ مَن ولِيَ هذه الـمَشيخة بعدَ تحرير القُدس. كما استْصْدَرَ السلطان المنتصِر أمْرا ببناء حارة للمغاربة وإسكان أسرة آل غانم فيها وإبقاءها وقْفا إلى آخر الزمان، واستَقَلُّوا لاحِقاً بحارةٍ أخرى عُرِفَت باسم “حارة الغْـوانْمة”. 

اختار الشيخ غانم الـغماري السَّكن بالقرب من باب الوليد، أحد الأبواب المعروفة في الحرم القُدسي، وهو الذي يُطلِقُ عليه قاطِـنو مدينة القدس الآن بابَ الغوانْـمة، وقد اشْـتَـقُّوا اسمه من اسم الشيخ غانم، وأبنائه وذُريته التي تعاقَبَتْ مِن بَعده، في إشارةٍ منهم لتقديرِ وتوقير آل غانم المغربيين. 

ووَرَد في كتاب “الذّاكرة التاريخية الـمشتَرَكَة؛ الـمغربية-الفلسطينية”؛ أنَّ السلطان صلاح الدين الأيوبي وهَبَ لــــغانم وأسرته بلدة (بُورين)، و”مُعظم الأراضي بين القُدس ونابُلس، واستمرَّت أسرته في تلك الـمنطقة إلى يومنا هذا”، مُشتهِرةً بالعلم والصلاح، والقيام بالفُتيا والقضاء، حبّ الأقصى وفلسطين.  

كان الشّيخ غانم بن علي في جهاده نِعْمَ الـقدوة والـمُربِّي بالنصيحة للأتباع والـمجاهدين، وفي أخلاقه وعلمه نِعْم الـمَرجِع، وفي علاقاته مع المغاربيين والـمقدسيين نِعم الجار والصديق، جَعل من المقاومة فُرصة للتزكية والتَّهذيب، وأوْقَفَ بَــنِـيهِ على خِدمة المسجد الأقصى وخانُقَاهْ الإسماعيلية، ونَبغَ في التدريس والتعليم حتّى عَدَّه مُجايِـلوه ومَن كَتَبوا عن سيرته “شيخَ الإسلام، وجِيه وُجهاء بيت الـمَقدِس، والعارِف بالله حُجّة الزمان”.

 ارتبَط الشيخ غانم الغماري المقدِسي بالصّوفية في مرحلة تالية مِن حياته، وصحِبَ كبار مشايخ التصوف، الذين سيكون لهم يدٌ فُضلى في تعريفه بباقي بلدان الـمشرق، وانضمامه لحركة الـكفاح في الشام. ثم انتَـقل في أخريات عـمْره إلى دِمشق وأقام بها، مُعلِّمًا، وواعِظاً، ومُحِضًّا شبابَ البلاد على الجهاد لحماية الثّـغور وبَـيضة الإسلام، وذاعَت مكانته بين العوام والـخواص، وأقْبَل عليه الناس من كلّ مكان في الشام، وكان دائم الافتخارِ بمعركة حِطّين وجهاد الـمُسلمين الذي تُوِّجَ بتحرير فلسطين ومدينتها الـمقدَّسة ومَسجدها الأقصى الـمبارك. 

خَلَّف غانم الغماري المغاربي أصلاً، المقدسي دراً واستقراراً، الدِّمَشْقِي وفاةً وإقبارا؛ ذريةً مِن بَعده مَلأت فلسطين والشّام ومصر عِلمًا وعطاءً، وشَغلت مناصِب دينية واجتماعية وسياسية رفيعة، اشتهر منهم السيد أحمد بن غانم وولَده عبد السلام الـمتوفى في القاهرة سنة 1280، ومحمد شمس الدين بن غانم العالم الأديب، وإبراهيم بن أحمد بن غانم المتوفى سنة 761 هجرية، ونور الدين علي بن غانم كبير فقهاء الحنفية في زمانه، عاش في القُدس وتُوفي في القاهرة سنة 1004 هجرية. 

أما الشيخ العلامة الـمجاهِد غانم حاملُ لواء المتطوعين المغاربة في حرب التَّحرير الأيوبية، فقد وافته المنية بعد حياةٍ حافِلة بالعطاء والكفاح، والتنقُّل في الأقطار ومُجاوَرة بيت الـمقدِس. 

مصادر ومراجع:

* (الذهبي) محمد بن أحمد شمس الدين: “تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام”، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، الطبعة الأولى 2003، سنة النشر في نسخة إلكترونية أكتوبر 2015.
* (الصلابي) علي: “صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير القدس”، دار المعرفة للنشر، نسخة إلكترونية بتاريخ 6 يوليوز 2013.
* (المودن) عبد الحميد و(مغربي) عبد الرحمن محمد: تنسيق أعمال كتاب “الذّاكرة التاريخية الـمشتَرَكَة؛ الـمغربية-الفلسطينية“، جزآن، الطبعة الأولى 2018.

* إعداد: عـدنان بـن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر “شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي”، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي – تطوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *