وجهة نظر

3 نساء.. 3 دقات

قد يكون تناول قضية المرأة مسرحيا من القضايا المستهكلة؛ بالنظر لمعالجتها فنيا في عدة أعمال مسرحية بمختلف مدارسها المغربية (إن جاز القول بأن بعض التوجهات المسرحية المغربية تمثل مدارس مسرحية)؛ وعليه فإن مجرد التفكير في الاشتغال على نفس الموضوع يعد مغامرة؛ فكيف بمن قام بذلك وهو يدرك مخاطر ذلك.

أحدس أن العرض المسرحي الذي قدمته فرقة تفسوين بالحسيمة بعنوان (تا را طا)؛ من توقيع الصديق الفنان أمين ناسور ؛ كان يستحضر ذلك؛ ولهذا خفف التوتر على الممثلين بكلمة افتتاحية كسرت الجدار الرابع ألقتها بعفوية الصحفية فاطمة الإفريقي؛ شكلت عتبة أكدت على أن ما سيتم عرضه يعالج معاناة الإنسان؛ وإن كانت الشخصيات الأساسية للعرض المسرحي ثلاث نساء.

لقد خاض العرض المسرحي مغامرة تشبه الرقص على شفرة حلاقة؛ ونجح طيلة 80 دقيقة عدم السقوط في الحديث بلغة مباشرة وتقريرية؛ واتجه نحو مسرحة معاناة الإنسان المتجددة في ثلاث قصص إنسانية وإن ظهر أنها قصص نسائية.

تم استعمال اللغة الشعرية من خلال اللجوء إلى قصائد محمود درويش وأحمد جندول؛ رحمهما الله؛ كما شكلت المقاطع الغنائية دعامة أساسية لأحاديث هاته النسوة؛ وهي الدعامة التي أوشكت على تحويل العرض المسرحي إلى دراما غنائية؛ لولا الحذر الشديد من قبل المخرج الذي كان ينقلنا إلى لوحة أخرى لتأخذ الجمهور الفنانة (إيمان طفيور) نفسا وتبلل حنجرتها بقليل من الماء لتواصل تغريدتها مع فصول العرض المسرحي إلى حين إسدال الستار على إيقاع آلتها الموسيقية و”لاباتري” الذي يعزف عليه بمهارة في الجهة المقابلة الفنان إلياس المتوكل.

تم أيضا الاعتكاز على تقنية الفيديو الذي تمثله شاشة بأضلاعها الستة ثابتة في خلفية العرض المسرحي والتي يتم داخل إطارها تارة بث عناوين مشاهد المسرحية ومواكبتها بلوحات توضيحية (المطر؛ المخاض؛ الولادة؛ الطائرة…)؛ وتارة أخرى يتم بث لوحات تجريدية متموجة؛ ليختتم العرض الرقمي ببورتريه ختامي للفنانة الراحلة ثريا جبران تم إهداء العرض المسرحي لروحها تقديرا لجولاتها التي مازالت تختزنها ذاكرة ركح مسرح محمد الخامس في عروض متميزة قدمتها فرقة مسرح اليوم.

ولأن لكل عرض مسرحي عنصرا أساسيا لايكتمل إلا به؛ لابد من الإشارة إلى سينوغرافيا العرض المسرحي التي تعد شرطا أساسيا لهذه القراءة الانطباعية والسريعة له؛ حيث تم تصميم الديكور بأشكال هندسية ذات 6 أضلاع في تماثل محوري مع أضلاع الشاشة التي أثثت فضاء العرض.

بدأت تلك الأشكال الهندسية بثلاث مقاعد مضيئة تجلس فوقهن ثلاث نساء في حالة نفسية سيئة جدا؛ يقدمن للجمهور بداية معاناتهن المؤلمة. لتتحول في مشاهد لاحقة تلك المقاعد بعد تكبيرها إلى أقفاص تم وضعها أفقيا وتوجد داخلها النساء مثل أي سجينات وراء القضبان؛ لكن بعزيمتهن وتفاؤل أبدته إحداهن منذ البداية( )يتم تحويل تلك الأقفاص إلى طوق نجاة يربطهن بالضفة الأخرى؛ وهنا تقف هذه الأشكال الهندسية عمومية لتتحول إلى فضاء يجمعهن للتواصل مع الوطن (مخادع هاتفية وغرف وصالات فسيحة) تسعفهن في ممارسة أنشطتهن داخلها بكل حرية وفرح.

لماذا 3 نساء وليس أكثر أو أقل ؟ هل هي إشارة إلى ثلاث دقات التي كان يتم بها كسر صمت قاعة المسرح قبل رفع الستار عن العرض المسرحي؟ هل هناك علاقة بين رقم ثلاثة وعنوان المسرحية الذي تم تشطيره إلى 3 أشطر (شا طا را) ؟ لماذا اختيار 3 لغات؛ حيث تتحدث إحدى النساء باللغة الدارجة (شيماء العلاوي)؛ وهي التي تحكي عن الوسط القروي الذي تنحدر منه؛ والعزلة التي يعيشها سكانه؛ بينما تتحدث المرأة الثانية بالعربية الفصحى(قدس جندل)؛ والتي تمثل الإنسان المثقف والتي مازالت تتطلب بعض الاشتغال على النص؟ مع التنويه بأداء قدس لهذه الشخصية.

أما المرأة الثالثة(أمال بنحدو)؛ وإن كانت لغتها هي الفرنسية لكنها كانت بلكنة افريقية في إشارة

لمعاناة المرأة الإفريقية/القارة الإفريقية التي مازالت تعاني بسبب الاستعمار الذي رحل وترك ندوبا وجروحا كثيرة؟

بمنطق مدرسة الفن للفن؛ العرض المسرحي حقق المتعة الفنية المطلوبة؛ وبمنطق الفن الذي يبعث إشارات ورسائل فقد حقق أيضا العرض المسرحي الذي يقف خلفه فريق محترف أهدافه من خلال تبيلغه رسالة مفادها أن المعاناة تظل واحدة وإن تم التعبير عنها ب 3 لغات؛ حيث ظل الأنين والشكوى القاسم المشترك بين 3 نساء رغم حديث كل واحدة منهن بلغة لاتفهمها الأخرى إلا أن لغتهن واحدة هي المعاناة؛ المكتوبة بحروف الأهات؛ فالحال أبلغ من المقال.

ختاما؛ وإن حاول العرض المسرحي معالجة قضية فلسفية معقدة هي معاناة الإنسان ؛من خلال 3 نساء بينهن جوامع وفوارق؛ إلا أنه مازال يحتاج إلى المزيد من الاشتغال على “النص”؛ من خلال اجتراح أسئلة أكثر عمقا؛ كما يحتاج من وجهة نظري إلى مساحة أكبر لحركة الشخصيات حيث لم يتم استغلال المساحة المتاحة بالشكل الكافي؛ هل يرجع ذلك إلى الآثار السلبية للحجر الصحي الذي فرض علينا الحركة داخل مساحة صغيرة ؟

مهما كانت الملاحظات؛ فقد أتاح العرض المسرحي في ضوء الظروف الصحية المعروفة للجمهور فرصة استعادة الأنفاس وطرح بعض الأسئلة بحرقة؛ والخروج إلى المسرح وفي ذلك تحررا من ربقة الثورة الرقمية التي عززتها جائحة كوفيد 19 وأحكمت قبضتها على حياة الإنسان وباتت تسوقه إلى حالة مسلخ العبودية التي يتنازل فيها طوعا عن حريته لفائدة بضع شركات عابرة للقارات تبيع معطياته وخصوصياته وتتحكم في رغباته بل أصبحت تصنعها له.

ولعل المسرح بانتخابه أبا روحيا للفنون يشكل أحد وسائل مقاومة هذه الديكتاتورية الرقمية التي تجثم على صدورنا ليل نهار؛ لأنه يستعصي على أن يكون افتراضيا لايمكنه إلا أن يكون حضوريا.

هن 3 نساء قدمن 3 دقات؛ تم بهن تكسير الصمت؛ وكأن العرض المسرحي يردد مع الغيوان؛ (دقة تابعة دقة شكون يحد الباس؟).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *