وجهة نظر

رأي في  تصريح  “الخارجية الأمريكية” بشأن قضية الريسوني

أثار التصريح الأخير الصادر عن الخارجية الأمريكية بخصوص قضية الصحافي المعتقل سليمان الريسوني، موجة من الجدل والنقاش في أوساط السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، أفرزت  مواقف متباينة  تأرجحت بين من رأى في التقرير  تدخلا واضحا في الشؤون الداخلية  للبلاد، وبين من رأى فيه  مؤشرا  دالا على  “عدم توفر شروط المحاكمة العادلة في القضية”، وليس الهدف من وراء هذا المقال التموقع في هذا الصف أو ذاك، أو تصويب مدفعية الاحتجاج  نحو “نيد برايس” المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، وليس من عاداتنا التحريرية أن  نركــب الموجـة  بشكل اعتباطي حماسي   بدون هدف أو رؤية، خاصة لما يتعلق الأمر بقضايا  مرتبطة بالسيادة والوحدة الترابية والمصالح الاستراتيجية العليا للوطن.

بدون حماسة مفرطة في إبداء الرأي، لابد أن نعتـرف أولا، أن ما صدر عن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية،  كان  تدخلا  واضحا في  الشـؤون الداخلية للبلاد، وانتهاكا غير مقبول  لسلطة القضاء واستقلاليته، وإساءة للضحية ومسا  واضـحا بحقوقه المكفولة قانونـا، ونعتـرف ثانيا أن لا أمريكا ولا غيرها، بإمكانها أن تعطينا دروسا وعبـرا  في القضاء والعدالة  وحقوق الإنسـان  والمحاكمة العادلة، بدليل أنها لم تحـرك ساكنا  في مؤامـرة “بن بطوش” التي ارتقت إلى مستوى الفضيحة السياسية والقضائية والقانونية والحقوقية والأخلاقية، والأمثلة كثيرة في هذا الإطار لايسع المجال لبسطها، وأن نعترف ثالثا وأخيرا أو على الأقل أن نكون  على وعي وإدراك،  أن التقــارير الحقوقيـة التي تصدر بيـن الفينـة والأخرى عن أمريكا وغيرها من  القوى الكبرى والمنظمات الدولية،  هـي تقــارير  “غيـر بريئــة” لـم تعـد تخــفى  المقاصد المتحكمة فيها على أحـد.

لكن بالمقابل،  لابد أن نستحضر عمق ومتانة العلاقات المغربية الأمريكية  التي ازدادت قوة وصلابة منذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وهو الاعتراف الذي  أربك  أعداء وخصوم الوحدة الترابية  ومنـح الدبلوماسية المغربية  جرعات قويـة، مكنت من الوقـوف الند للنـد أمام دول أوربيـة  وازنـة من حجم إسبانيـا وخاصة ألمانيـا، ولسنا  اليـوم  في هذه اللحظة  المفصليـة التي تكالب فيها علينـا أعداء وخصـوم الوطن، على استعـداد  لفتـح جبهـة  مواجهـة  أخرى – مهما قل شأنها – مـع الصديق  والشريك الاستراتيجي الأمريكـي  الذي كان في الموعد وأقر بمغربيــة الصحــراء، على خلاف بلدان الجــوار الأوربــي التي  لازالت وفيــة  لدبلوماسيـة  المراوغــة  وازدواجية المواقـف  والابتـــزاز الناعــم، وحتـى ما إذا كنـا متفقيــن على أن  التصريح المذكور كـان يستحـق الـرد الذي يناسبـه، فقد كان من الأجدر أن يتم ذلك في إطار من  الرصانـة  والواقعية والتبصر، ووفق ما هو متاح من القنوات الدبلوماسية والقضائية التي يمكن عبرها إيصال المعلومة القضائية الصحيحة كما هي، لا كما تروى أو تحكى أو تفهم، بدل  الانخراط  الحماسي في هستيريا المواقف والمواقف المضادة  التي  ليـس فقط ، لاتقـدم ولا تؤخـر، بـل وتشــوش على علاقتنـا وشراكتنـا الاستراتيجية مع  شريك  وحليف استراتيجي وصديـق تاريخـي من حجـم الولايات المتحدة الأمريكيــة، التي ما أحوجنـا إليها اليـوم أكثـر من أي وقـت مضـى في زمن التكالب والتآمر.

إذا  كانت الدبلوماسية المغربيـة المتبصرة قد نجحت في إحــراج إسبانيـا المتورطـة في جريمة “بن بطـوش”  ونجحت باقتـدار في كسب  التضامن العربي  والإسلامي عبر الجامعة العربية والبرلمان العربي ومنظمة المؤتمـر الإسلامي  والدعم الإفريقـي عبـر  البرلمان الإفريقـي في عـز الأزمة مع إسبانيـا  والبرلمـان الأوربي، وأفلحـت في الوقــوف الند للند أمـام دولـة وازنــة في الاتحـاد الأوربي من حجـم ألمانيــا التي كشفت عن عـورة عدائهـا للوحدة الترابيـة للمملكـة، فلــم يعـد مسمـوحا لهـذه الدبلوماسيـة  الدخول في أية “نزالات دبلوماسية” أخـرى نحن في غنى عنها، خاصة لما يتعلق الأمر بدول صديقة داعمة لوحدتنا الترابية وقضايانا الاستراتيجية.

التقرير الأمريكي  بقدر ما يعد  تدخلا غير مقبول في الشؤون الداخلية وفي سلطة القضاء المغربي،  بقدر ما يدعونا إلى المزيد من  الاشتغال والاجتهاد للارتقـاء بمستوى وفعالية  هذه السلطة القضائية التي لابد من الحرص في  أن تكون سلطة  حرة ومستقلة  ونزيهة وذات مصداقية، تتحقق معها أهداف المحاكمة العادلة ومقاصد  دولة الحـق والقانون والمؤسسات ومحاربة كل ممارسات العبث والفساد، وفق رؤية شمولية تستحضر تقوية اللحمة الوطنية وتعزيز الجبهة الداخلية، بشكل يساعد على مواجهة كل الرهانات التنموية القائمة، والتصدي لكل مناورات و”حماقات” الأعداء الخالدين للوحدة الترابية للمملكة في جارة السـوء.

وإذ ندلي بهذا الرأي الذي يلزمنا ولا يلزم أحدا، يمكن الرهان على أدوات اللين واليسر والتخفيف والرأفة والمغفرة والتضامن والصلح وجبر الخواطر والإنسانية في معالجة قضايا جنائية ساخنة تستأثـر باهتمام الرأي الوطني وحتى الدولي، من قبيل قضية سليمان الريسوني و عمر الراضي و توفيق بوعشرين و ما تبقى من معتقلي حراك الريف، وذلك “في إطار ما يتيحه القضاء وما يكفله القانون للضحايا من حقــوق”، من أجل تحقيق نوع من الانفراج الداخلي، اعتبارا لحجم ما ينتظرنا من رهانات وتحديات تستدعي وحدة الصف وتذويب جليد اليأس والإحباط واليأس والقلق والتوتر، والرفع من منسوب الثقة في الدولة والمؤسسات، مع التشديد على ضرورة توفير المعلومة القضائية في إطار “الحق في المعلومة”، بما يضمن تعزيز آليات الحكامة القضائية بكل مستوياتها، وتكريس القضاء كسلطة مستقلة لامحيد عنها في مغرب الإصلاح والتجديد والإقلاع التنموي الشامل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *