وجهة نظر

هل هي قواعد جديدة في العلاقات المغربية الإسبانية ؟

في السنوات الأخيرة توطدت العلاقات التجارية مع اسبانيا حتى أصبحت هذه الأخيرة الشريك التجاري الأول للمغرب عوض الحليف التقليدي فرنسا. العديد من الشركات الإسبانية تستثمر في المغرب، والعلاقات التجارية تتطور يوما بعد يوم. يحدث هذا في ظل الوضع المتقدم الذي يجمع المغرب بالاتحاد الأوروبي، وهو وضع أكبر من الشريك وأقل من العضو في الاتحاد. لكن بعد أن استقبلت إسبانيا زعيم الانفصاليين، المطلوب للعدالة الإسبانية في قضايا التعذيب والاغتصاب، وبهوية مزورة، عرفت هذه العلاقات تطورات غير مسبوقة أفرزت واقعا جديدا ليس في العلاقات المغربية الإسبانية فحسب، بل كذلك في العلاقات المغربية الأوروبية.

لم تكن تتوقع الجارة الشمالية أن المغرب سيتعامل معها بتلك الحدة وبذلك التصعيد الذي يوحي بأن إسبانيا وضعت رجلها في أرض ملغومة وأن المغرب لم يعد يقبل المساس بوحدته الترابية، وأن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس. لكن الساسة الإسبان لم يستوعبوا هذه التغيرات، وتعاملوا مع المغرب بمنطق قديم لا زال يقوم على أساس دولة تنتمي للاتحاد الأوروبي وتستمد قوتها منه في مواجهة دولة معزولة في حاجة لإسبانيا للمرور إلى الاتحاد الأوروبي وتصدير منتوجاته الفلاحية وبضائعه، والبحث عن الاستثمارات الأوروبية.

الساسة الإسبان، بحكم اعتمادهم الكبير على الاتحاد الأوروبي، وانزوائهم في نظرة استعلائية تعتبر الآخر قدره المحتوم أن يظل معزولا ومتأخرا عن الحركية التي يعيشها العالم الصناعي، لم ينتبهوا لأمريين اثنين اشتغل علهما المغرب منذ سنوات: الأمر الأول مرتبط بتنويع المغرب لعلاقاته الاستراتيجية حتى لا يبقى رهين التقلبات الأوروبية. فاستطاع المغرب أن يقيم علاقات استراتيجية متنوعة مع كل من روسيا والصين والهند واليابان ومؤخرا مع بريطانيا بعد البريكسيت. الأمر الثاني هو الاهتمام الأمريكي بالقارة السمراء وإدراكه أن باب ولوج هذه القارة هو المغرب بعد المجهود الكبير الذي قاده جلالة الملك لجعل المغرب قوة اقتصادية في عمقه الافريقي وتوطيد علاقة البلاد مع بلدان القارة السمراء. هذا الاهتمام الأمريكي تتوج بالاعتراف الصريح لأكبر دولة في العالم بالسيادة الكاملة للمغرب على أراضيه الجنوبية.

انزواء إسبانيا في منطق العلاقات القديمة، وإغفالها للعلاقات الجديدة التي قوَّت الوضع الإقليمي للمغرب، جعلها ترتكب خطأ استراتيجيا بالتصعيد مع المغرب والاستقواء بالاتحاد الأوروبي، ومطالبة برلمان الاتحاد بإدانة المغرب واستصدار قرار أوروبي في هذا الشأن.

أمام هذا التصعيد الإسباني، الذي أصبح بالمنطق المغربي الجديد غير مقبول والمغرب له من القوة الإقليمية ما يمكنه من ردع إسبانيا ولو استقوت عليه بالاتحاد الأوروبي، وحاولت توظيف مناورات جارته الشرقية لإضعاف الموقف المغربي. أمام هذا التصعيد، قام المغرب بتحويل جميع خطوطه البحرية التي تربطه بأوروبا، من إسبانيا إلى البرتغال وفرنسا وإيطاليا. وبدأ محادثات مع بريطانيا لفتح المجال أمام مستثمريها لتعويض الشركات الاسبانية.

بعد هذه الخطوات، أدركت إسبانيا أنها هي التي في حاجة إلى المغرب للعبور نحو إفريقيا، وأن تحويل المغرب خطوطه البحرية نحو بلدان أوروبية أخرى سيجعل إسبانيا تفقد بوابتها نحو إفريقيا، ناهيك عن الامتياز الاقتصادي الكبير الذي تجنيه إسبانيا من مرور مواطني شمال إفريقيا بأراضيها لبلوغ بلدانهم في إفريقيا. أدركت كذلك أن باقي بلدان أوروبا لا تستطيع التضحية بعمقها الإفريقي الذي يمر عبر بوابة المغرب، من أجل مساندة حليف أوروبي قد يتسبب لها في خسارة أكبر من خسارة الحليف المغربي. لذلك نجد المغرب لم يجد صعوبة في تحويل خطوطه البحرية من إسبانيا إلى بلدان أوروبية تجلس بجانب إسبانيا في الاتحاد الأوروبي. أدركت إسبانيا كذلك استعداد بريطانيا لتعويض الشركات الإسبانية، وأن دولة عظمى من حجم الولايات المتحدة الأمريكية تستعد للدخول بقوة إلى إفريقيا عبر البوابة المغربية وبالتحديد الصحراء المغربية وميناء الداخلة. وفي الأخير أدركت إسبانيا ولو بشكل متأخر، أن المغرب أصبح قوة إقليمية بإمكانه أن يضع جارته الشمالية في مواجهة دولية أكبر منها ومن الاتحاد الأوروبي.

من الجدير الإشارة إلى أن بعض الأصوات من داخل المغرب لم تكن تفهم حقيقة التصعيد المغربي مع إسبانيا، وكانت تطرح العديد من الأسئلة من قبيل قدرة المغرب على مواجهة دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وهل بلدنا أصبح فعلا قوة إقليمية بإمكانها خوض مثل هذه الصراعات؟ لكن بعد أن وصلت إسبانيا الباب المسدود في تصعيدها مع المغرب واستقوائها بالاتحاد الأوروبي، وبعد أن تيقنت بأنها ستخسر الكثير في هذه المواجهة المفتوحة، خاصة وأنها تضررت كثيرا من تداعيات الجائحة، تراجعت عن هذا التصعيد، وقامت بإعفاء وزيرة الخارجية وتعويضها بوزير جديد كانت أولى تصريحاته في حفل تنصيبه أن “المغرب صديق عظيم لإسبانيا”، وأفادت بعض المنابر الإسبانية أن أولى زياراته الخارجية ستكون إلى المغرب. بعد هذا أدركت تلك الأصوات الداخلية أن المغرب فعلا قوة إقليمية، وأدركت إسبانيا أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن مغرب الأمس ليس مغرب اليوم، وأن العلاقات الجديدة ستقوم على أساس قواعد جديدة تجمع بين قوة إقليمية ودولة عضو في الاتحاد الأوروبي. تلك القواعد الجديدة سيكون المغرب هو من سيحددها على ضوء علاقاته الاستراتيجية مع أمريكا والصين وروسيا والهند وفرنسا واستنادا لمصالحه في عمقه الإفريقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *