وجهة نظر

كيف تصنع المرأة التي تصنع التخلف

النظام يصنع المرأة لتعيد انتاج النظام..

منذ ايام و أنا أمر في شارع السعادة بفاسإذا بي أرمق امرأة في الثلاثين من عمرها وهي تتوقف أربع مرات متتالية أمام محلات خياطة تقليدية متجاورة فيما بينها.. إن ما أثار انتباهي ليس الأم و لاتوقفاتها و لا نظراتها و لكن كيف كانت طفلتها ذات الأربع أو الخمس سنوات تقف بجانبها في لحظة تأملية عميقة في التكاشط و القفاطن و مختلف اللباسي المعروضة في واجهات المحلات..

تركت الأم و الطفلة و سرت بضعة أمتار في اتجاه شمال الحي قبل أن تتراءى لي لوحة اشهارية ضخمة تظهر فيها مغنية مغربية شابة بابتسامة عريضة و لباس مثير وعلامات السعادة و الرضا على الهاتف الذي تشهره بادية جدا على محياها.. في تلك اللحظة مرت ثلاثة مراهقات كن قد خرجن للتو من ثانويتهن القريبة و توقفن ثواني طويلة أمام اللوحة في مشهد يشبه الى حد كبير مشهد توقف طفلتنا أمام محلات القفاطن السابقة..

سرت نحو قلب الشارع حيث يعرض باعة متجولون منتوجات صينية رخيصة على رأسها الكيسان و الطباسل و الشرابل و الخواتم و العكر ديال خمسة دراهم… حول الباعة كانت تتجمهر نساء من مختلف الأعمار و معهن طفلات صغيرات منخرطات بهدوء لكن بثبات في تأمل صارم في المنتوجات فيما يشبه حصة لتعلم ما يجب الانتباه إليه و التركيز عليه و معرفة أنواعه بل و حفظه و تذكره لولوج عالم النساء بل و العالم في كليته لاحقا…

نزلت أمتار أخرى نحو ملتقى الطرق.. وهنا وقفت على مشهد مثير جدا: أربعة نساء واقفات في شكل دائرة متراصة وهن في حديث جدي جدا حول حفلة فهمت من الثواني القليلة التي استرقت فيها السمع أنها تخص خطبة لفتاة إحداهن.. التقطت هذه الجملة: “عرفتو تبارك الله على سيدي نبيل جاب للالةغيتة واحد الرشم غزااااال باين ولد الناس و عارف الأصول مزيان، جاب واحد الشربيل فاسي مدردربجوج حجيرات ديال الذهب لبيض و معاهبورطابلبيبضمئيدببزااااااااااف” .. في تلك اللحظة كانت طفلات صغيرات تتحلقن حول أمهاتهن في محاولة حثيثة لمعرفة ما يدور، بل إن طفلة من الطفلات حاولت إثارة انتباه والدتها نحو خاتم صغير كانت تلبسه تعبيرا منها عن حضورها و متابعتها و انتباهها و فهمها و استيعابها و قبولها المطلق و فرحتها التي لاتقارن بما يجري و يمتدح أمامها..
يعتبر النفسانيون أن الأطفال يلتقطون عشرات الأشياء خلال اليوم الواحد، لكنهم لايحتفظون أو على الأصح لايستدخلون إلا القليل منها، هي بالذات الأشياء التي تكون ممزوجة أو محمولة بشيء فيه رائحة الأم و كلام الأم و نظرات الأم و رضاها الكامل..

نزلت نحو أسفل الشارع أمتارا أخرى أبحث عن بائع خردة واحد وسط عشرات الفراشة يكون قد قرر – ضد هذه الهيمنة الإرهابية العادية للشرابل و الصبابط و الصماطي و الفولارات و الخواتم le terrorisme normal des choses – أن يفرش كتبا مثلا.. لم أجد و لو واحدا.. أه !!عفوا !! لقد عثرت على فراش يعرض أكواما من الكتب، و حوله تتحلق نساء كثيرات يبدو عليهن اهتمام خطير بما يعرض أمامهن.. أحسست بسعادة حقيقية.. اقتربت من البائع و من النساء، وجدت صعوبة كبرى لاختراق الصفوف لرؤية أكوام الكتب، و بعد مجهودات جبارة وجدت نفسي أمام كنز نادر: ركام من كتب الطبخ و الموضة و تقنيات “توجاد” العروسة.. في تلك اللحظة، وقع ما يشبه الاقتتال الحاد على جوهرة نادرة: مجلة تظهر على غلافها شخصية نسائية مغربية شهيرة بلباس مزين بمجوهرات باذخة و خلف هؤلاء النسوة – وهذا ليس سبقا- تقف طفلات يتمرن على فن اكتشاف/استدخال العالم كما هو معروض فوق أرصفة هذه السعادة الفاسية/المغربية الملغومة..

لنضع أنفسنا قليلا في قلب دماغ هؤلاء الطفلات.. في اعتقادي، لايجب أن نستهين بما يحدث في شوارعنا.. إذا كان هناك شيء يجب أن نفهمه من المشاهد “العادية” التي سردتها هو أن الفضاء يقومبدور خطير جدا في هيكلة دماغ الطفلة/المرأة المغربية ( و الطفل/ الرجل المغربي أيضا مما يستدعي مناقشة أخرى) بشكل يجعلها تعتقد أن العالم كما هو في طبيعته أو في بنيته “الأصلية” و “الكلية” و “النهائية” حتى لا أٌول “الدينية” هو عالم الطباسل و الشرابل و العراسات و اللباسي.. إن الطفلات اللواتي يصاحبن أمهاتهن في “تسوقهن” سوف يفهمن بفعل تكرار نفس المشاهدات و نفس التعليقات و نفس الأحكام أن العالم هو الشربيل، و هو الموضة “الفاخرة”، وهو الكاطوديال الخطوبة لي خصو يكون مترو على مترو ونص، و هو ما يجب تحضيره للعروسة، و هو البرزة لي خاصها تكون هاكا و ماشي هاكا، وهو الحطرة بهاذ اللباسي و ماشي بهاد اللباسي، و هو الجسد النسائي “الناقص” دوما الذي يجب الاشتغال عليه حتى يكون في المستوى.. وشيئا فشيئا، تجد الطفلة نفسها مسيجة داخل دائرة من الأصنام يصعب جدا الخروج عنها.. وشيئا فشيئا تبدأ في تعلم الانفصال عن أي شيء لايشبه أصنامها، و في “معاداة” كل من يعيش بعيدا عن أصنامها، و كل من يريد إثارة انتباهها الى وجود عالم أخر يثوي بالقرب تماما من عالمها حتى لا أقول في قلبه الذي هو العالم السياسي/التاريخي، عالم التعقيدات و الالتباسات و التفاعلات و التحولات اللانهائية و المفتوحة، التي تحكمها هي و أصنامها..

ان الدولة واعية جدا بالاهمية القصوى للفضاء العام في بناء الهويات الفردية و الجماعية.. لهذا تغرقه بالازبالالهوياتية.. وتمنع منه أي شيء قد يجر المرأة نحو المتخيلات الثورية.. في فاس مثلا ستجد مكتبة واحدة مقابل عشرات قاعات أعراس خيالية.. الهدف: التحييد السياسي الكلي للمرأة.. فامرأة ثورية هي الخطر الاول على الاستقرارات المقدسة..

إن من نتائج هذه “التنشئة الاجتماعية/السياسية” أن الشربيل و العكر و الكبة و الطرز و اللبسة تصبح – بفعل قوة و حدة تكرار عمليات عرضها/استدخالها – أعضاء “بيولوجية” للطفلة، أعضاء لايمكن تصور الجسد/الهوية بدونها، أعضاء تصبح لها مع الوقت الأولوية المطلقة على الأعضاء البيولوجية “الأولى” ( ألا توجد بيننا نساء كثيرات جدا يفضلن حرق مبالغ هامة على ضبلون أو مضمة أو لبسة “نادرة” على القيام بتشخيصات طبية دقيقة لألام جسدية/نفسية مخربة حقيقية؟؟).. يشبه هذا السقوط ما يحدث في فضاء أخر.. فعندما تريد شركة تجميل مثلا بيع منتوج معين، فإنها تقوم بإيهام المرأة بحاجتها الحيوية إلى المنتوج المذكور، و إلا حدث تشويش خطير في مسار تحقق ذاتها و نفسيتها ك”امرأة”. هذا بالضبط هو ما يحدث في شارع السعادة و غيره.. تحول هذه الاستراتيجيا جذريا من معنى الجسد البيولوجي، الذي يصبح بلا أي معنى ما لم يصاحبه و يحمله جسد أخر، هو الجسد مافوق البيولوجي، الذي يصبح مع الوقت أداة الطفلة/المرأة الأولى و الأخيرة في بناء العلاقة بالجسد البيولوجي و بالجماعة و بالوجود الاجتماعي كله..

إن أخطر ما في عمليات “التنشئة الاجتماعية” الموصوفة أعلاه أنها تصنع طفلة/امرأة تحقق “نشوتها” النفسية (اقوى أنواع النشوات كما نعلم) فقط بالاقتراب من شربيل و قطعة عكر و صباطكايحمق.. إن من تحقق رعشاتها الكبرى في مثل هذا العالم يصعب عليها أن تحس بضرورة رفع الأعين نحو عالم أخر، نحو ما يجري خلف دوائر الشرابل و قاعات العراسات و بلاطوات الحلوى من زلازل تاريخية يتطلب فهمها و التموقع ازائها و ربما معالجتها أدوات ليست هي أو على الأٌقل هي أكبر من الأدوات “الشرابلية” و “العكرية”..