وجهة نظر

فهم الجميع وبنكيران لا يريد أن يفهم

ما يقوم به السيد بنكيران الآن سواء أكان ذلك بوعي أو بدونه، ما هو في حقيقته تواطؤ ومشاركة في عملية إعدام للممارسة السياسية وقتل لأي إيمان بالإصلاح في ظل شروط وقواعد اللعب الحالية، وهو بذلك يساهم مع سبق إصرار في عملية تحطيم وإحباط لدى مختلف الفئات والشرائح بما يغذي عندها عملية النفور (الموجودة أصلا)، وبما يجعلها تكفر كفرا بواحا بأي شيء اسمه انتخابات أو سياسة في هذا البلد.

فقد كان آخر ما ينقص البلد في هذه الفترة بالذات هو هذا التنازل الأشبه إلى الاستسلام وتسليم رقبة وأمانة ملايين من المواطنين ممن منحوا أصواتهم للحزب ليصنع قرارهم ويعبر عن طموحاتهم إلى أطراف أخرى لم يصوت عليها احد ولم يخترها احد ولا تمثل احد غير نفسها ومصالحها.

فبالصيغة المعلنة لحل “البلوكاج السياسي” والتي تقتضي كما جاء في خطوطها العريضة الإبقاء على نفس تشكيلة الحكومة السابقة (العدالة والتنمية، الأحرار، التقدم والاشتراكية والحركة الشعبية)، مع استبعاد حزب الاستقلال الذي التزم معه رئيس الحكومة المعين بتشكيل الحكومة بأن يكون ضمن التشكيلة قبل أن تنزل جهات داخل الدولة بكل ثقلها لإبعاد حزب “السي علال” وعدم إشراكه بأي شكل من الأشكال، بما يشكل “تأديبا” لأمينه العام حميد شباط على رفضه الانخراط في مخطط كان أعد بعد الانتخابات لقلب الموازين على العدالة والتنمية الذي بوأته صناديق الاقتراع المرتبة الأولى، فهي صيغة محبطة ومخيبة للآمال بشكل كبير والأكثر من ذلك أن تعمق وتعقد الأمور أكثر ما هي في طريقها للحل.

فعندما يختار الرجل البحث وتقديم التنازلات تلو الأخرى “لأحزاب ورقية” من التي لا تشكل سوى واجهة لأطراف من المخزن هو يراها ضرورية لإبقاء الحكومة قائمة لتتم ولايتها أو لطمأنة جهات من داخل الدولة عن كون مصالحها في الحفظ والصون، فهو بذلك يدير ظهره ويخيب آمال فئات واسعة من الشعب ممن اختارت حزبه وصوتت له بل ووثقت فيه بهدف أساسي أصلا هو إزاحة هذه الأطراف بالذات، ولوضع حد للتدخل والتأثير السافر في صناعة القرار في البلد بشكل غير سليم.

بل إن الرجل ومن حيث لا يدري يكون منح فرصة ثمينة وذريعة اكبر للداعين إلى المقاطعة للحياة السياسية وعدم المشاركة بأي شكل من الأشكال فيها مادام الأمر في شكله العام لا يعدو أن يكون مجرد مسرحية مقسمة الأدوار وبسيناريوهات محبوكة من قبل مخرجين لا يظهرون في العادة على العلن وهم من يملكون دفة الحكم وصناع القرار الحقيقي في البلد.

إذ بالنظر للمعطيات ومسار المشاورات وبحث الرجل فيها عن بديل للخريطة التي أفرزتها صناديق الاقتراع وللتفويض الشعبي المسنود بشرعية دستورية لا غبار عليها ولا لبس فيها، وبالمقابل من ذلك يختار الدخول مع هذه الجهات في مساومات وصفقات بأي شكل من الإشكال وعلى حساب الوطن المواطن، فنعتقد أن هذا أمر مرفوض بتاتا، بل هو سلوك معيب من رئيس حكومة كان ينظر إليه كأمل أخير لإنقاذ آخر ما تبقى من ماء وجه أحوال السياسة في البلد.

فالمواطن البسيط على وعي تام أن سبب البلاء في هذا البلد وما وصلت إليه من الفساد والتفقير والفشل في معظم مناحي الحياة العامة هو ناتج بالدرجة الأولى بتمادي هذه الفئة في الصول و الجول دون حسيب ولا رقيب في كل ما يمت ويرتبط بإدارة أمور الدولة والمواطن، فالأحرى إذا من سيد رئيس الحكومة مراعاة ولو الحد الأدنى من مشاعر وطموحات الفئات الشعبية ويحرص ولو في الحدود الدنيا على توظيف السلطة والأمانة التي منحت له كي تكون في إطارها السليم وبعيدا عن أي شبهات وبما لا يضعها تحت تصرف هذه الجهات.

فما لا يريد السيد بنكيران أن يفهمه هو أن اختياره من الأول منطق الرضوخ والانحناء بدل منطق المجابهة وفرض الإرادة الشعبية بداعي “الحرص عن مصلحة الوطن “، هو الذي يجعل الطرف الآخر يتمادى يوما بعد يوم في سلوكاته وفي سعي لفرض سلطته وإعلان الوصاية على المؤسسات واستقلالية القرار فيها ضدا على نتائج صناديق الاقتراع.

فحتى منطق التعايش مع هذه الأطراف وصيغة “الإصلاح في ظل الاستقرار” مع الإبقاء عن أركان وشياطين الفساد في مراكزها وبنفس سلطاتها ضمن ذلك الاتفاق غير المعلن بين الطرفين، تبين أنها فاشلة ولن تؤتي أكلها بل إنها تأتي بنتائج عكسية تماما في ظل إصرار الرجل على حرق أكبر ورقة عنده وهي الإرادة و التفويض الشعبي والتي كان من المفروض أن تكون أساس حكومته منذ البداية ليخلق نوع من التوازن مع تلك الأطراف.

فأخنوش باعتباره واجهة لتلك الأطراف عندما يريد اللعب فهو يفعل ذلك وهو على دراية تامة أنه مسنود وبظهر محمي من أجهزة ومؤسسات وبوسائل مادية ولوجيستيكية ضخمة وبكل الظروف المواتية من قبل أطراف خفية مقابل أداء خدمة ومهمة خاصة وهي جعل حزب العدالة والتنمية وأمينه العام مجرد ديكور لشرعنة ومنح الغطاء الشعبي للقرارات التي ستتخذها الحكومة بعد ذلك والتي لا يمكن أن تتخذها إلا في حكومة يقودها حزب بهذه الشروط.

لكن الشيء الذي يصر الرجل على تجاهله بشكل غير مفهوم، هو أن الطرف الثاني الذي يملك السلطة وصناعة القرار الحقيقي لا يريد ذلك التعايش أصلا ولا يريد شيئا اسمه حزب العدالة والتنمية يقاسمه ولو جزء من صناعة القرار ذاك، ببساطة لأن هذه الجهات ترى ولا تزال ترى أن هذا الأمر تم فقط بإكراه منها وعن مضض، و ضمن سياق خاص أي أوج لربيع العربي الذي لم تعد رياحه ذات تهديد كبير اليوم.

الكرة لحد الآن لا تزال في ملعب الرجل، وعليه أن يحتاط جيدا في أي قرار أخير قبل اتخاذه، وعليه ألا يحفر قبره بيده وعلى إحراق أوراق قوته بيده، فلا يوجد أي شيء ولا أي ذريعة تسمى “مصلحة وطن عليا” أو “قوة قاهرة” يطلب منك فيه التنازل عن الإرادة الشعبية لترضي خاطر أطراف أنت تعرف أنك لم منحتهم بؤبؤ عينيك ما رضيت عنك.

بنكيران أمامه الآن فرصة أخيرة وهو التوجه لانتخابات جديدة كأقل الأضرار، غير ذلك فالرجل سيحكم على مساره السياسي بالوأد، فحتى لو تكن الأخيرة حلا مثاليا للأزمة إلا أنها على الأقل ستبرأ ذمة الرجل من أي تواطؤ ضد هذا الشعب ومصالحه، وحينها تضع النظام أمام مسؤوليته الكاملة ليتحمل بعدها تبعات ما سيأتي لوحده.