منتدى العمق

إشراقات الذاكرة على أيكة الإصلاح

هل تنفصم عرى الإسلام كل يوم؟ هل ستظل رياح المآقي تعصف بزهور اليقين والثبات؟ كيف ندثرما تبقى من شذرات الأمل في هذا الزمان الذي صار فيه الحليم حيران؟ لن أزيد… سأرسب على قلبي عظمة الجبارمن خلاله قوله “أفرأيت إن متعنا هم سنين، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ” .أو أتوحد مع الخيال في هوية الزمن الماضي لأرى اللحظة التي ارتد فيها يعقوب بصيراً ثم أهتف بأقصى ما استطعت : إني لأجد ريح صلاح الدين لولا أن تفندون.

سأتحدث في هذا المقال عن الذاكرة بأبعادها ودلالاتها في ترسيخ مبادئ الإصلاح و الحفاظ على إرادة التغيير رغم تلاطم أمواج المصائب والفتن في هذا البحر الخضم الذي نسميه الدنيا ،فبالله التوفيق أقول إننا بالرجوع إلى الثقافة العربية ما قبل الإسلام ، سنلمس ارتباطا حميميا بين الإنسان العربي وذاكرته، إذ كانت تذكي خياله الشعري بالانتماء والحنين ورفض ما تناكرته قبيلته، فكان بذلك يدافع عنها بالشعر أصالة وبالسيف تبعا إن دعت الضرورة إلى ذلك . هل بقيت مركزية الذاكرة في صدر الإسلام ؟

الجواب نعم ،لكنها سقت التأمل و الخيال الشعري بماء الوحي فأنبتت رياض البذل و العطاء ،ثم كانت هي بذلك حماية معرفية من مخاطر و انزلاقات الواقع الغير مألوف ،والسر في هذا أنها أحيت في قلب المؤمن عالما لا مرئيا تمتزج فيه اليقظة و الوعي، و تحكمه جاذبية الحلم ،فيستقبل واقعه وهو رافض للثابت (المنكر) ،تواق ومفعم بقوة التغيير. فعندما كان النبي (صلّى الله عليه وسلم) يصعد بذاكرته الصافية إلى غار حراء للتحنث ،تبدأ تجليات الإشارات الإلهية في اليقظة لتنقله إلى اللحظة الواعية التأملية المستوعبة لموقعها من الوجود (الصادق_الأمين) ، المستهجنة لمظاهر الانحلال العقدي و الأخلاقي في مكة (أنقذوا أنفسكم من النار) .

لقد كانت بداية الدعوة صعبة لأنها اصطدمت بذاكرة جماعية ترسخ في خيالها الثابت الوثني ، فهي ممتنعة عن السفر مع النبي (صلّى الله عليه وسلم) إلى عالمه اللامرئي حتى تستقبل مواجيد التخلية والتحلية، لذلك قال الله لهم : “قل إنما أعظكم بواحدة ،أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ” أي أن يخرج كل واحد منكم بخياله من رمزية المكان و الأشخاص، فيقارب بين عظمة السماء أو الجبال بل لينظر خلق سفينته في الصحراء (الجمل) ، ثم ليستغرق بتأمله من بعيد هذه الأصنام و الملأ الذي ينافح عنها ، ثم ليحتكم إلى الذاكرة فإنها لن تبخل عليه باللحظة الواعية التأملية (اليقظة).

بقي النبي (صلّى الله عليه وسلم) ردحا من الزمن يدعو الناس إلى الخروج من عبادة الأصنام و العباد إلى عبادة الله الذي يخرج الخبء في السماوات و الأرض ،فما آمن معه إلا قليل ، فقال له ربه سبحانه : “لعلك باخع نفسك إن لم يومنوا بهذا الحديث أسفا.
فكيف ظل النبي (صلّى الله عليه وسلم) ممتطيا جواد الحلم في التغيير و الإصلاح ،قاطعا بذلك دابر اليأس؟

لنتفق على أن اليأس دون الحزن في فكر المؤمن ،فكثير من الصالحين كمالك بن دينار و الفضيل بن عياض وابن الجوزي… جعلوا من الحزن رافدا من روافد العطاء و الارتقاء الروحي في ممارستهم للحياة اليومية ،لكن اليأس لم يتمكن أبدا من قلوبهم ، ويرحم الله مصطفى صادق الرافعي حين قال في كتابه أوراق الورد الصفحة 56 “ترفعنا الهموم و الآلام ، لأن عواطف الحزن و الشقاء لاتكون إلا من سمو ،وهي لابد أن تكون لأنها وحدها الحارسة فينا لإنسانيتنا… وكأن كل لوعة ألم يحسها المرء هي صرخة عاطفة جديدة وُلدت في النفس”.

فنستشف بهذا الاستقراء أن جو الحزن الذي يحف أهل اليقظة ، إنما هو ترياق للصبر الجميل وسقاء لأزاهير الصمود و الثقة بنصر الله تعالى ، فينجس الحلم بأنوار التفاؤل أجاجا وتنجلي غيوم الخوف و القلق تباعا ، وهذا ما تفسره معجزة الصابرين المرابطين في غزة أو القدس أو حلب … ولقد قام الوحي بامتصاص التجارب الدعوية السابقة للأنبياء فكانت نبراسا ينير حلم النبي (صلّى الله عليه وسلم) في مواصلة التغيير و الإصلاح ، موظفا بذلك مفهوم الاستذكار وهو استجلاء للذاكرة بمجراها التاريخي زمنا وفضاءًا وأحداثا، فكلما تصدى له المشركون بالحيف و الاضطهاد تجلت في ذاكرته معاناة أخيه إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه، وكيف زجوا به في النار للخلاص منه أوصراع أخيه موسى مع فرعون وملإه كما في سورة القصص… فكأن مقام الحلم يقول للنبي (صلّى الله عليه وسلم) :إن قوانين الحياة أسبق و أقوى من قوانين الاجتماع ، فاستوثق بالإصلاح و الدفاع عن حياض الحق ، لأن الله منجز وعده وسيمكن لأهل الإيمان في الأرض.

وفي هذا السياق، يحضرني حديث يفترله ثغر التاريخ و يستدفئ به قلب المؤمن ،وهو فرار الصحابي خباب بن الأرث إلى النبي (صلّى الله عليه وسلم) وهو متكئ بجانب الكعبة وقد اشتد الخطب على المؤمنين وتجرعوا من الآلام ما تضيق به الصدور و تطيش له الآمال ، طالبا الاستنصار و الدعاء ،فجلس (صلّى الله عليه وسلم) وأجابه بقبس من تاريخ الصابرين ليوطن بذلك في قلبه أهمية اللحظة الواعية التي تستوجب الصمود ومواصلة التغيير ، وعدم التأثير على الحلم بالاستعجال لأن في ذلك تطويقا للتفاؤل ، فالله بالغ أمره ولو بعد حين ،فسيمياء الحالة التي تكتنف وجدان النبي (صلّى الله عليه وسلم) لايمكن الوقوف عليها إلا من خلال استجلاء ثلاثية الأبعاد (الخيال، اليقظة ، الحلم) ،فسنن التاريخ (ثنائية المحنة و المنحة) تتمظهر في الخيال عن طريق الاستذكار ،واليقظة مرتبطة باللحظة التي يعانق فيها الوعي معاني الاستخلاف ،ثم لتسطع في قلب خباب بن الأرث ومن معه من المؤمنين أنوار الحلم سائرة إلى معراج اليقين و الثقة بنصر الله ،وهذا سر قوله (صلّى الله عليه وسلم) “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل و النهار ،بعز عزيز أو بذل ذليل..).

فالذاكرة إذن قوة خلاقة تفضي إلى الإصلاح و التجديد في الرؤية و التمثلات الوجدانية ، وفي كيفية التعامل مع القضايا الحارقة ، إذ ترشد المصلح إلى الحصافة في الرأي وتنزله منازل الحكماء ، فلا يسقط في شراك الحماسة الزائغة ،فالذاكرة في خيال المؤمن كالمنارة التي تطل على الساحل …بعد في الرؤية ،وانسياب لضياء البذل و العطاء.

كان هذا جهد المقل ، فهو بحث اعتمدت فيه على مفاهيم فلسفية عند غاستون باشلار وجوليا كرستيفا ،فقمت بمحاولة إخضاعها وتبيئتها بما تستوعبه وترحب به ثقافتنا العربية الإسلامية ،فإن كان من صواب فمن الله ، وإن كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان ، و الحمد لله رب العالمين.