وجهة نظر

لا تغتالوا بن بركة مرة ثانية!

لم تكن تصريحات “جان كورا”، أستاذ مساعد بجامعة “شارلز” ببراغ، لصحيفة “الغارديان” البريطانية في تقرير نشرته الأحد 26 دجنبر الجاري، الأولى من نوعها في إثارة شبهة وجود علاقة للمناضل اليساري المهدي بن بركة بالمخابرات التشيكوزلوفاكية في الفترة ما بين سنة 1960 وسنة 1965 التي تم اغتياله فيها بفرنسا. فقد سبق لمجلة “ليكسبريس” الفرنسية في عددها 2922 الصادر ما بين 5 و 11 يوليوز 2007، أن نشرت تحقيقا من ست صفحات للصحافي والمؤرخ للسياسة التشيكوسلوفاكية في القارة الإفريقية ما بين 1948و1968، “بيتر زيديك”، يتهم فيه المهدي بن بركة بأنه كان يعمل جاسوسا لصالح الإستخبارات التشيكية. وزعم بوجود ألف وخمسمائة وخمسين (1550) وثيقة تؤكد تلك الاتهامات. وقد تصدت عائلة بن بركة لتلك الاتهامات حينها ونفتها عن المهدي بن بركة، وقد نشرت “ليكسبريس” في موقعها بتاريخ 7 يوليوز 2007، ردا للبشير بن بركة ينفي فيه تلك الاتهامات.

وعكس ما جاء في افتتاحية جريدة الاتحاد الاشتراكي ليوم 28 دجنبر 2021، ردا على ما نشرته “الغارديان”، فنحن لسنا أمام إعادة نشر ما سبق لمجلة “ليكسبريس” أن نشرته، إذ أن ما نشر سنة 2007 (وليس سنة 2006 كما جاء في الافتتاحية) كان يتعلق بعمل صحافي (تحقيق)، وهو بذلك يسهل تصنيفه في خانة ما هو سياسي، ويمكن بالتالي الرد عليه بنفس الرد الذي نشرته نفس المجلة في موقعها للبشير بن بركة، كما أشرنا إلى ذلك. ولكننا اليوم أمام عمل يريد أن يصنف نفسه ضمن البحوث العلمية، مما يتطلب ردا مخالفا يكون من نفس النوع والقيمة.

إن الانتقال بتهمة التجسس من العمل الصحافي إلى مجال البحث العلمي، قد يضفي على تلك الاتهامات صبغة “الحقيقة العلمية”، والمقال العلمي لـ”جان كورا” قد يتحول إلى مرجع بحوث وأعمال أخرى، وهكذا سوف تتحول الاتهامات تدريجيا إلى “حقيقة” بفعل التداول المستند إلى عمل ذي طبيعة علمية.

لذلك فنحن أمام تحول حساس في ملف تلك الاتهامات لن تنفع معه كل التصريحات والبلاغات والافتتاحيات، بل ينبغي مواجهته في ميدانه وبأدواته. وبغير هذا سنفاجأ يوما بتحول قصة “الشيخ”، كما تزعم مقالة “كورا” أنه لقب المهدي الاستخباراتي، إلى فيلم سينمائي مثير عن بطل ثوري ليس في الواقع سوى جاسوس مرتزق قد تمكن من تضليل العالم لأزيد من أربعة عقود. والذين سوف يغضبون لمثل هذا الكلام عليهم أن يعلموا أن الغضب لا ينفع في وقف عجلة هناك العديد من الجهات التي سوف تعمل عل تسريع سيرها، ليتم اغتيال بن بركة مرة أخرى وأخيرة.

إن الأمر لا يتعلق اليوم بالدفاع عن رمز تاريخي يعتبر أيقونة النضال، ولا على تراث شخصية كانت معروفة عالميا بمواقفها المناهضة للامبريالية والمناضلة من أجل نصرة المظلومين وفي سبيل رفاه المستضعفين، كما لا يتعلق بصراع إيدلوجي أو سياسي يمكن معالجته بالخطابات السياسية والإديولوجيىة. لذلك نرى أن افتتاحية الاتحاد الاشتراكي، التي جاءت دون مستوى رد عائلة بن بركة مند أزيد من 14 سنة، لم تساير التطور الحاصل في ملف “اتهام بن بركة بالجاسوسية”.

هناك في التقدير تحديات ينبغي رفعها لإحداث تطور في التعاطي مع هذا الملف، وتجنب اغتيال المهدي مرة ثانية والتي ستكون، لا قدر الله، الأخيرة، لأن التمكين لتهمة التجسس في الأذهان من شأنه، من جهة، إعطاء نوع من التبرير لعملية الاغتيال المادي الذي تعرض له المهدي سنة 1965، ومن جهة ثانية، ستحول المهدي لمجرد جاسوس مرتزق لا يستحق أي تعاطف ولا تقدير. وسنجمل تلك التحديات في ثلاثة هي:

التحدي الأول، يتعلق بكوننا أمام مقال علمي لأستاذ جامعي متخصص في التاريخ ذي الصلة بالموضوع نشرها في نونبر 2020. وصاحبه يعتبر عمله عملا علميا، ومثل هذه الأعمال لا تواجه إلا بمثلها.

التحدي الثاني، نجده في تصريح “جان كورا” في حواره مع جريدة “مدار” المغربية، حيث رفض وجود أية اعتبارات أو دوافع سياسية أو غيرها خلف إعداده لمقاله ونشره. وقال في حواره المنشور بتاريخ 27 دجنبر الجاري: (في مقالتي البحثية، يمكن أن تجد الإحالات للمصادر الأرشيفية التي استعملت (بعضها تم رفع السرية عنه مؤخرا استجابة لطلب تقدمت به). ويمكن لأي شخص يرغب بذلك زيارة الأرشيفات التشيكية ويطلب الحصول على الوثائق نفسها. أنا مؤرخ مهني مهتم بتشيكوسلوفاكيا زمن الحرب الباردة وانخراطها في النزاعات التي تلت الحربين العالميتين. وقد أوّلت قصة بن بركة بالطريقة التي أراها. يمكن لأي شخص أن يستعمل تلك الوثائق نفسها ويتحدّى التأويل الذي قدّمته). والتحدي الواضح هنا لا يمكن رفعه بالاتهامات والبلاغات والتصريحات، بل بعمل علمي يفند ما ذهب إليه “كورا” أو يجد تأويلا يخالف تأويله.

التحدي الثالث، والذي لم تنتبه له افتتاحية جريدة الاتحاد الاشتراكي حين قالت إنه (ومنذ ذلك التاريخ (2007) لم يخرج أي مسؤول استخباراتي سابق ليؤكد تلك المزاعم، خصوصا أن مسؤولي المخابرات في بلدان أوروبا الشرقية، التي انحلت بعد انهيار جدار برلين غير مطوقين بواجب التحفظ الذي يلزم مسؤولي مخابرات سابقين لدول مازالت قائمة، ولذلك يعتبرون منجما للمعلومات الصحافية والتاريخية). فقد سبق لموقع مجلة “ليكسبريس” بتاريخ 7 يوليوز 2007 تعليقا على رد البشير بن بركة أن أكد أن المجلة عاينت جميع الوثائق التي اعتمدها الصحفي المؤرخ الذي أعد التحقيق الصحافي المنشور، والتي تبلغ 1550 وثيقة، مضيفة إشارة خطيرة تقول فيها “ينبغي التذكير أن أحد قدماء الأجهزة التشيكية قَبِل إعطاء شهادته بالوجه المكشوف في إطار ذلك التحقيق، وأنه أكد العلاقات بين أجهزته القديمة والمعارض المغربي في المنفى”. وكان المفروض وضع مهنية المجلة على المحك بطلب الكشف عن “العميل الشاهد” الذي قبل الحديث بهوية معلنة للسماح بتقييم مدى مصداقية شهادته.

وفي التقدير، وكما سبقت الإشارة، نحن أمام تحول حساس في ملف اتهامات المهدي بن بركة بالتجسس، بل وبطلب دعم المخابرات التشيكية من أجل إسقاط الملك الراحل الحسن الثاني، كما زعم “كورا”، بإضفاء الصبغة العلمية على تلك الاتهامات. وهذا يتطلب عدم الاكتفاء بتكذيب ما ينشر هنا وهناك، والعمل بالعكس على رفع تحدي “كورا” بإعادة قراءة الأرشيفات الاستخباراتية المعنية وتمحيصها، وإعادة تأويلها بالكيفية التي تتيحه تلك القراء العلمية. وهذه مسؤولية عائلة المهدي بن بركة رحمه الله، ومسؤولية اليسار عموما، وأحزابه بشكل خاص، ومسؤولية الباحثين المغاربة، لأن المهدي بن بركة في التقدير شخصية، بكل الرمزية التي اكتسبتها، أصبحت ضمن التراث اللامادي للمغاربة. فهل يتم العمل على وقف عملية اغتيال ثان وأخير للمهدي بن بركة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *